الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحرمة
الانتفاع بأجزاء الآدمي
لكرامته
ــ
[البناية]
هذا الباب - غير تحقيق لأنه إنما يلزم ما ذكره إذا جزم بعود الضمير إلى المضاف، وقد قلنا: إنه يجوز الأمران، والتحقيق في هذا الباب أن يكون التقدير في الضمير - فإن كل واحد من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجس أي نجس - فيكون هذا تعليلا لقوله: محرما، فبين بذلك أن هذه الأشياء حرام لأنها نجسة، لأنه لو لم يذكر {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] لما كان يلزم من صدر الكلام النجاسة لهذه الأشياء؛ لأن الحرمة لا تستلزم النجاسة.
فإن قلت: فعلى هذا يلزم اقتصار النجاسة في الخنزير على لحمه.
قلت: الأمر كذلك فإنه قال: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] والطعم لا يكون إلا في اللحم دون غيره وهو المطلوب.
فإن قلت: فعلى هذا يجوز استعمال جلده بالدباغ واستعمال شعره.
قلت: أما جلده فقد اختلف فيه، هل قبل الدباغ أم لا، فقد قال بعضهم: إنه يقبل، فعلى هذا يطهر بالدباغ، وهو مذهب الليث وداود ورواية عن أبي يوسف رحمه الله وقال بعضهم: إنه لا يقبل، فعلى هذا لا يطهر بالدباغ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى عن قريب.
وأما شعره فإنه جزء ما هو نجس بعينه، وللجزء حكم الكل غير أن محمدا أباح الانتفاع به للخرازين والأساكفة للضرورة لأن في تنجيسه حرجا.
وقوله: لأن نجاسة لحمه عرفت بالنص من قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145](الأنعام: الآية 145) ليس كذلك لأن بالنص ما عرف إلا حرمة لحمه، ونجاسته عرفت من الضمير الراجع إلى كل واحد من الأشياء الثلاثة قررناه فافهم، فإنه موضع دقيق.
وقوله - لأن حرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء لا لكرامته آية النجاسة - ينتقض بلحم الفرس لأنه حرام عند أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله - مع صلاحيته للغذاء مع أنه غير نجس.
فإن قلت: حرمته للكرامة. قلت: لا نسلم ذلك، وإنما حرمته لكون أكله سببا لقتله لأنه آلة الجهاد، ولأن الله تعالى امتن علينا بكونه مركوبا ولم يمتن بكونه مأكولا مع أن نعمة الأكل فوق نعمة الركوب.
[الانتفاع بأجزاء الآدمي]
م: (وحرمة الانتفاع بأجزاء الآدمي لكرامته) ش: يتعلق بقوله: أو الآدمي، والمعنى بخلاف جلد الخنزير فإنه لا يطهر بالدباغ لنجاسة عينه، ولجد الآدمي لكرامته؛ لأن الله تعالى كرمه، وفي استعمال جلده ابتذال له، هكذا قرره الشيخ الأكمل. وأنا أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لما خرج جلد الآدمي عن حكم الدباغ بقوله: إلا جلد الآدمي كان ينبغي أن يجوز الانتفاع ببقية أجزائه مثل شعره وعظمه وعصبه وغير ذلك، فأجاب عن ذلك بقوله:
فخرجا عما رويناه،
ثم ما يمنع النتن والفساد فهو دباغ وإن كان تشميسا أو تتريبا
ــ
[البناية]
وحرمة الانتفاع اه.
م: (فخرجا) ش: أي جلد الآدمي وجلد الخنزير، م:(عما روينا) ش: وهو قوله عليه السلام: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ، ومراده خرجا عن عموم هذا الحديث، ثم خروجهما عنه بالكتاب، فإن كان متأخرا عن الحديث، فهو ناسخ لا محالة، وإن كان متقدما عليه فخبر الواحد لا يعارضه فضلا عن أن ينجس، وإن كان معارضا كان مخصصها.
والذين ذهبوا إلى طهارة جلد الآدمي والخنزير بالدباغ لم يخرجوهما عن عموم هذا الحديث، غير أنهم منعوا استعمال جلد الآدمي لكرامته. ونقل ابن حزم إجماع المسلمين على تحريم جلد الآدمي واستعماله. وعند الشافعي: الآدمي لا ينجس بالموت، وفي قول: نجس ويطهر جلده بالدباغ في أحد الوجهين، لكن المقصود لما لم يحصل به اشتباه.
م: (ثم ما يمنع النتن) ش: بفتح النون وسكون التاء المثناة من فوق وهو الرائحة الكريهة يقال: نتن الشيء بضم النون وانتن بمعنى فهو منتن بضم الميم، ومنتن بكسرها اتباعا لكسرة التاء؛ لأن مفعلا بالكسر ليس من الأبنية.
م: (والفساد) ش: وهو ضد الصلاح قاله الليث، والمراد هنا ما يمنع ضد صلاحية استعمال الجلد الغير المدبوغ، وهو أعم من النتن وغيره.
فإن قلت: هو مصدر أم اسم؟ قلت: مصدر من فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا وهو فاسد وهو من باب نصر ينصر. وقال ابن دريد: فسد يفسد مثل عقد يعقد لغة ضعيفة وكذلك فسد بضم السين فسادا فهو فاسد.
م: (فهو دباغ) ش: جملة اسمية، وهو خبر المبتدأ وهو قوله: ما يمنع، ولتضمين الابتداء معنى الشرط دخلت الفاء في الخبر م:(وإن كان) ش: أي وإن كان ما يمنع النتن والفساد، وإن واصلة بما قدمنا فلذلك لا يذكر لها الجواب ظاهرا م:(تشميسا) ش: من شمست الشيء بتشديد الميم إذا وضعته في الشمس، يقال: شيء مشمس أي عمل في الشمس، والمراد هنا أن يبسط الجلد في الشمس لتشمس منه الرطوبة التي فيه وتزول عنه الرائحة الكريهة بذلك؛ لأنه دباغ حكمي، والدباغ على نوعين: حقيقي وحكمي على ما نذكره عن قريب.
م: (أو تتريبا) ش: من تربت الإهاب تتريبا إذا ترب عليها التراب أزالت ما عليه من الرطوبة والرائحة الكريهة، وكذلك يقال: تربته متربا بالتخفيف، ويقال أيضا: أتربت الشيء إذا جعلت عليه التراب، ومنه الحديث: أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة. وقال الصاغاني: قال ابن روح: كل ما يصلح فهو متروب وكل ما يفسد فهو متروب مشددا.
لأن المقصود يحصل به فلا معنى لاشتراط غيره،
ــ
[البناية]
قلت: فعلى قوله ينبغي أن يقال: أو متربا ولا يقال أو تتريبا، ولكن المشهور ما ذكرناه أولا.
م: (لأن المقصود يحصل به) ش: أي ما يمنع النتن والفساد م: (فلا معنى لاشتراط غيره) ش: نحو القرظ بالظاء المعجمة، والعفص والشث بفتح الشين المعجمة والثاء المثلثة وهو نبت طيب الرائحة كذا ذكره الجوهري وغيره.
وقال الأزهري: هو بالباء الموحدة هو ما يدفع به بعد الزاج وهو السماع، وقد صحفه بعضهم بالمثلثة وهو شجر لا أدري أيدبغه أم لا، وتابعه صاحب " الشامل " أو [
…
] وفي تعليق الشيخ أبي حامد، قال أصحابنا: بمثلثة، وقال الشافعي: بالموحدة، وقد قيل الأمران وبأيهما كان فالدباغ به حاصل، وصرح القاضي خان أبو الطيب في تعليقه ما يجوز بهما، ولا ذكر له في حديث الدباغ، وإنما هو من كلام الشافعي.
وقال الصاغاني: الشب بالباء الموحدة منه الزاج والشث بالمثلثة نبت طيب الريح مر الطعم يدبغ به، قال الدينوري: أخبرني أعرابي من أزد السراة قال: الشث شجر مثل شجر التفاح في القدر، ورقه يشبه ورق الخلاف، ولا شوك له، وله تومة موردة، ويستقر به ذرة صغيرة فيها ثلاث حبان، وربع سود مثل الربعة يرعاه الجمال إذا يبس.
قالوا: والإبل تأكل الشث فتحصب عليه ويدبغ بورقه، ويساق بأغصانه وتعالج بفروعه الرطبة من الريح يأخذ في الجسد ويضمد به للكسير يجبر وهو مر ينبت في السهل والجبل وأكثره ينبت بجبال الفراهيد. وقال أبو عيسى البكري: الشث كأنه شجر المدبان.
ثم اعلم الدباغ على نوعين: حقيقي كالقرظ ونحوه، وحكمي كالمترب والمشثت والمشمس والإبقاء في الريح، ولو جف ولم يستحل لم يطهر، وقال أبو يوسف رحمه الله إن كان يمنع من الفساد فهو دباغ ذكره في " المحيط " وهما سواء؛ لأنه يعود نجسا إذا أصابه ماء فإن في الحكمي روايتين.
وقال في " الدراية " قول صاحب " الهداية ": فلا معنى لاشتراط غيره نفى قول الشافعي، فإن عنده لا يكون الدباغ إلا بما تزول به الرسوبات عنه، وذلك باستعمال القرظ والعفص ونحوهما؛ لأنه طهارة شرعية فيقتصر على مورد الشرع، والشرع ورد بالدباغ بالمتقوم كالقرظ والعفص دون غيرهما من التراب والشمس. انتهى.
وقال أبو العباس الجرجاني من أصحاب الشافعي رحمه الله في " التحرير ": يجوز الدباغ بالتراب، ورجحه إمام الحرمين بحصوله بالملح. وقال القاضي أبو الطيب: ولا يكفي فيه الشمس، نص عليه الشافعي رحمه الله وفي وجه يجوز، حكاه الرافعي، وبه قطع الجمهور،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[البناية]
وفيه وجه شاذ تحصل به. وقال القاضي خان: ولم أر للشافعي رحمه الله في هذا نصا، والمرجع في ذلك إلى أهل الصنعة، فإن كان للتراب والرماد هذا الفعل جعل الدباغ منهما.
وأما الملح فنص الشافعي رحمه الله أنه لا يحصل الدباغ به، وبه قطع صاحب " الشامل "، وقطع إمام الحرمين بالحصول، وفي " الحلية " قال أبو نصر: سمعت بعض أصحابنا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول: إنما يطهر الإهاب بالشمس إذا علمت به عمل الدباغ، وهذا يرفع الخلاف.
وفي جواز بيع الجلد بعده له قولان أصحهما وهو الجديد أنه يجوز وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قوله القديم: لا يجوز وبه قال مالك رحمه الله.
ثم إن الشافعي احتج فيما ذهب إليه بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميمونة رضي الله عنها فقال: "هلا استنفعتم بإهابها" فقالوا: إنها ميتة، قال: "إنما حرم أكلها إذ ليس في الماء والقرظ ما يطهره» . رواه الدارقطني والبيهقي. وقال النووي: هذا حديث حسن، ورواه أبو داود والنسائي في " سننيهما " بمعناه عن ميمونة رضي الله عنها قالت:«مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجال يجرون شاة لهم مثل الحمار فقال صلى الله عليه وسلم: "يطهره الماء والقرظ» .
ولنا ما أخرجه الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استمتعوا بجلود الميتة إذا هي دبغت ترابا كان أو رمادا أو ملحا أو ما كان بعد أن يزيد صلاحه» ". وقال محمد في كتاب " الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة رحمه الله عن حماد عن إبراهيم قال: كل شيء يمنع الجلد من الفساد فهو دباغ، وهذا يتناول المشمس والمترب.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي احتج به الشافعي لا يقتضي الاختصاص بل المراد به ما في معناه بالإجماع، والمرجع في ذلك إلى أهل الصنعة، نص عليه الشافعي رحمه الله كما ذكرنا.
فإن قيل: في رواية حديث عائشة الذي احتج به معروف بن حسان، قال أبو حاتم: هو مجهول، وقال ابن عدي: منكر الحديث، قلت: الذي ورد في الصحيح من قوله عليه السلام: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" قالوا: إنها ميتة قال: "إنما حرم أكلها» . وقوله: فدبغتموه أعلم من أن يكون الدباغ حقيقيا أو حكميا فبعموم هذا يخص حديث عائشة المذكور، ثم عندنا يجوز بيع الجلد المدبوغ لقوله عليه السلام:«هلا أخذتم جلدها فدبغتموه وانتفعتم به» ، البيع من وجوه الانتفاع فجاز بيعه كالذكاة وهو قول جمهور العلماء.