الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطرف الثالث من الباب الأوّل من المقالة الأولى في صنعة الكلام، ومعرفة كيفية إنشائه، ونظمه، وتأليفه، وفيه مقصدان
المقصد الأوّل [في الأصول التي يبنى الكلام عليها وهي سبعة أصول]
الأصل الأوّل [المعرفة بالمعاني، والنظر فيه من وجهين]
الوجه الأوّل [في شرف المعاني، وفضلها]
إعلم أن المعاني من الألفاظ بمنزلة الأبدان من الثّياب، فالألفاظ تابعة، والمعاني متبوعة، وطلب تحسين الألفاظ إنما هو لتحسين المعاني، بل المعاني أرواح الألفاظ وغايتها التي لأجلها وضعت، وعليها بنيت؛ فاحتياج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى أشدّ من احتياجه إلى تحسين اللفظ، لأنه إذا كان المعنى صوابا واللفظ منحطّا ساقطا عن أسلوب الفصاحة كان الكلام كالإنسان المشوّه الصورة مع وجود الرّوح فيه، وإذا كان المعنى خطأ كان الكلام بمنزلة الإنسان الميّت الذي لا روح فيه؛ ولو كان على أحسن الصّور وأجملها.
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر» «1» : ومما رأيته من المدّعين لهذا الفن الذين حصلوا منه على القشور، وقصروا معرفتهم على الألفاظ المسجوعة الغثّة، التي لا حاصل وراءها، أنهم إذا أنكرت هذه الحالة عليهم؛ وقيل لهم: إنّ الكلام المسجوع ليس عبارة عن تواطؤ الفقر على حرف واحد فقط، إذ لو كان عبارة عن هذا وحده لأمكن أكثر الناس أن يأتوا به من غير كلفة، وإنما هو أمر وراء هذا، وله شروط متعدّدة، فإذا سمعوا ذلك أنكروه لخلوّهم عن معرفته،
وإذا أنكر عليهم الاقتصار على الألفاظ المسجوعة، وهدوا إلى طريق المعاني، يقولون: لنا أسوة بالعرب الذين هم أرباب الفصاحة؛ فإنهم إنما اعتنوا بالألفاظ، ولم يعتنوا بالمعاني إعتناءهم بالألفاظ. فلم يكفهم جهلهم فيما أرتكبوه حتّى ادّعوا الأسوة بالعرب فيه فصارت جهالتهم جهالتين. قال: ولم يعلموا أن العرب، وإن كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذّبها فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأشرف قدرا في نفوسها.
ولما كانت الألفاظ عنوان المعاني وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها، وزيّنوها وبالغوا في تحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في النفس، وأذهب بها في الدّلالة على القصد. ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعا لذّ لسامعه فحفظه، وإذا لم يكن مسجوعا لم يأنس به أنسه في حالة السجع؛ فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ورقّقوا حواشيها وصقلوا أطرافها، فلا تظنّ أن العناية أذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط، بل هي خدمة منهم للمعاني، فصار ذلك كإبراز صورة الحسناء في الحلل الموشّاة والأثواب المحبّرة، فإنا قد نجد من المعاني الفاخرة ما شوّه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه.
قال أبو هلال العسكري رحمه الله: ومن عرف ترتيب المعاني واستعمل الألفاظ على وجوهها بلغة من اللّغات ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيأ له فيها من صنعة الكلام ما تهيأ له في الأولى. ألا ترى أن عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسيّ، وحوّلها إلى اللسان العربيّ. فلا يكمل لصناعة الكلام إلا من تكمّل لإصابة المعنى وتصحيح اللفظ والمعرفة بوجوه الاستعمال.
قال في «المثل الثائر» : واعلم أن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها، وأول من تكلم في ذلك حكماء اليونان؛ غير أن الحصر كليّ لا جزئيّ، ومحال أن تحصر جزئيات المعاني وما يتفرّع عليها من التفريعات التي لا نهاية لها، لا جرم أن ذلك الحصر لا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم، ولا يفتقر إليه؛ فإن البدويّ
الباديّ راعي الإبل ما كان يمرّ شيء من ذلك بفهمه، ولا يخطر بباله، ومع هذا؛ فإنه كان يأتي بالسّحر الحلال إن قال شعرا أو تكلم نثرا.
قال: ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا، وانساق الكلام إلى شيء ذكره لأبي عليّ بن سينا في الخطابة والشّعر، وذكر ضربا من ضروب الشعر اليوناني يقال له اللوغاذيا، وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي عليّ ووقفني على ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته، فإنه طوّل فيه وعرّض كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل هذا الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربيّ شيئا، ثم مع هذا جميعه فإن معوّل القوم فيما يذكر من الكلام الخطابيّ أنه يورد على مقدّمتين ونتيجة «1» ، وهذا مما لم يخطر لأبي عليّ بن سينا ببال فيما صاغه من شعر أو كلام مسجوع عمله، وعند إفاضته في صوغ مصاغه لم تخطر المقدّمتان والنتيجة له ببال، ولو أنه فكّر أوّلا في المقدّمتين والنتيجة، ثم أتى بنظم أو نثر بعد ذلك، لما أتى بشيء ينتفع به، ولطال الخطب عليه.
قال: بل إن اليونان أنفسهم لما نظموا ما نظموه من أشعارهم، لم ينظموه في وقت نظمه وعندهم فكرة في مقدمتين ولا نتيجة، وإنما هذه أوضاع توضع وتطول بها مصنّفات كتبهم في الخطابة والشعر، وهي كما يقال:
قعاقع ليس لها طائل
…
كأنّها شعر الأبيوردي «2»