الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما مثله في الناس إلا مملّكا
…
أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه
يريد وما مثله في الناس حيّ يقاربه إلا مملّكا أبو أمه أبوه؛ وهو خاله، فلما استعمل فيه التقديم والتأخير في غير موضعه جاء مشوّها رثّا كما تراه. قال الوزير «ضياء الدين بن الأثير» : وقد استعمل الفرزدق من التعاظل كثيرا كأنه يقصد ذلك ويتعمّده لأن مثله لا يجيء إلا متكلّفا مقصودا، وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيّتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد؛ ألا ترى أن المقصود من الكلام معدوم في هذا النوع، إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى؛ فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به. ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما.
الصنف الثالث ما كان مستقيما ولكنه كذب كقولك حملت الجبل، وشربت ماء البحر، وما أشبه ذلك
واعلم أن المعاني المستعملة في الشعر والكتابة أكثرها جار على هذا الأسلوب خصوصا المعاني الشعريّة، فإنه مقدّمات تخييلية توجب في النفس انقباضا وانبساطا على ما هو مقرّر في علم المنطق. وقد قال في «الصناعتين» :
إن أكثر الشعر مبني على الكذب والاستحالة من الصفات الممتنعة، والنعوت الخارجة عن العادة، والألفاظ الكاذبة: من قذف المحصنات، وشهادة الزّور، وقول البهتان، ولا سيما الشعر الجاهليّ الذي هو أقوى الشعر وأفحله. قال: وليس يراد منه إلا حسن اللفظ وجودة المعنى؛ فهذا الذي سوّغ استعمال الكذب وغيره مما جرى ذكره فيه. وقيل لبعض الفلاسفة: فلان يكذب في شعره، فقال: يراد من الشاعر حسن الكلام، والصدق يراد من الأنبياء عليهم السلام.
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع رحمه الله في كتابه «تحرير
التحبير» «1» : وأنا أقول قد اختلف في المبالغة، فقوم يرون إن أجود الشعر أكذبه، وخير الكلام ما بولغ فيه، ويحتجّون بما جرى للنابغة الذبيانيّ مع حسان بن ثابت رضي الله عنه في استدراك النابغة عليه تلك المواقع الحجية في قوله:
لنا الجفنات «2» الغرّ يلمعن بالضّحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فإن النابغة إنما عاب على حسان ترك المبالغة؛ والقصة مشهورة. قال:
والصواب مع حسان وإن روي عنه انقطاعه في يد النابغة؛ وقوم يرون المبالغة من عيوب الكلام، ولا يرون محاسنه إلا ما خرج مخرج الصدق، وجاء على منهج الحق؛ ويزعمون أن المبالغة من ضعف المتكلم وعجزه عن أن يخترع معنى، أو يفرّع معنى من معنى؛ أو يحلي كلامه شيئا من البديع، أو ينتخب ألفاظا موصوفة بصفات الحسن، ويجيد تركيبها، فإذا عجز عن ذلك كله عدل إلى المبالغة يسدّ بها خلله ويتم نقصه؛ لما فيها من التهويل على السامع، ويدّعون أنها ربما أحالت المعاني فأخرجتها عن حدّ الإمكان إلى حدّ الامتناع. قال: وعندي أن هذين المذهبين مردودان، أما الأوّل فلقول صاحبه إن خير الكلام ما بولغ فيه، وهذا قول من لا نظر له، لأنا نرى كثيرا من الكلام والأشعار جاريا على الصدق المحض خارجا مخرج البحث، وهو في غاية الجودة، ونهاية الحسن، وتمام القوّة؛ وكيف لا والمبالغة ضرب واحد من المحاسن، والمحاسن لا تحصر ضروبها؛ فكيف يقال: إن هذا الضرب على انفراده يفضل سائر ضروب المحاسن على كثرتها! وهذا شعر زهير والحطيئة وحسان، ومن كان مذهبه توخّي الصدق في شعره غالبا، ليس فوق أشعارهم غاية لمترقّ، ألا ترى إلى قول زهير:
ومهما يكن عند امرىء من خليقة
…
وإن حالها تخفى على الناس تعلم
وإلى قول طرفة:
لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى
…
لكالطّول «1» المرخى وثنياه في اليد
وإلى قوله:
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وإلى قوله الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
…
لا يذهب العرف بين الله والناس
فإنك تجد هذه الأشعار في الطبقة العليا من البلاغة، وإن خلت من المبالغة؛ والذي يدل على أن مذهب أكثر الفحول ترجيح الصّدق في أشعارهم على الكذب ما روي عن الحرورية امرأة عمران بن حطّان قاضي الصّفريّة من الخوارج أنها قالت له يوما: أنت أعطيت الله تعالى عهدا ألّا تكذب في شعرك، فكيف قلت:
فهناك مجزأة «2» بن ثور
…
كان أشجع من أسامه «3» ؟
فقال: يا هذه، إن هذا الرجل فتح مدينة وحده وما سمعت بأسد فتح مدينة قط، وهذا حسان يقول:
وإنما الشعر لبّ المرء يعرضه
…
على المجالس، إن كيسا وإن حمقا
وإنّ أشعر بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
على أن هؤلاء الفحول وإن رجّحوا هذا المذهب لا يكرهون ضدّه، ولا يجحدون فضله، وقلّما تخلو بعض أشعارهم منه؛ إلا أن توخّي الصدق كان الغالب
عليهم، وكانوا يكثرون منه، ومن أكثر من شيء عرف به، كما أن النابغة ومن تابعه على مذهبه لا يكرهون ضدّ المبالغة، وإلا فكلّ احتجاج جاء به على النّعمان في الاعتذار جار مجرى الحقيقة كقوله:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وليس وراء الله للمرء مذهب
فعائب الكلام الحسن بترك المبالغة فقط مخطيء، وعائب المبالغة على الإطلاق غير مصيب، وخير الأمور أوساطها.
والتحقيق أن المبالغة إذا لم تخرج عن حدّ الإمكان، ولم تجر مجرى الكذب المحض، فإنها لا تذمّ بحال، كقول قيس بن الخطيم «1» :
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر
…
لها نفذ لولا الشّعاع أضاءها
ملكت بها كفّي فأنهرت «2» فتقها
…
يرى قائم من دونها من «3» وراءها
فإن ذلك من جيد المبالغة، إذ لم يكن خارجا مخرج الاستحالة مع كونه قد بلغ النهاية في وصف الطعنة، وكذلك قول أبي تمّام:
تكاد تنتقل الأرواح لو تركت
…
من الجسوم إليها حين تنتقل
فإنه لم يقنع بصحيح المبالغة وقربها من الوقوع فضلا عن الجواز بتقديم كاد، حتّى قال: لو تركت، قال: وهذا أصح بيت سمعته في المبالغة وأحسنه؛ وعلى حدّه ورد قول شاعر الحماسة، وقد بالغ في مدح ممدوحه فقال:
رهنت يدي بالعجز عن شكر برّه
…
وما فوق شكري للشّكور مزيد
ولو كان مما يستطاع استطعته
…
ولكنّ ما لا يستطاع شديد
فإن هذا الشاعر ألقى بيده وأظهر عجزه، واعترف بقصوره عن شكر برّ هذا الممدوح، وفطن أنه لو اقتصر على ذلك، لاحتمل أن يقال له: عجزك عن شكره لا يدل على كثرة برّه لاحتمال أن يكون لضعف مادّتك عن الشكر، إذ لا يلزم من عجز الإنسان عن شيء تعظيم ذلك الشيء، ولا بدّ لاحتمال أن يكون العجز لضعف الانسان، فاحترز عن ذلك بقوله:
وما فوق شكري للشّكور مزيد
ثم تمم المعنى بأن قال للشّكور للمبالغة في الشكر، فإن شكورا معدول عن شاكر للمبالغة كما تقدّم، ثم أظهر عذره في عجزه بأن قال في البيت الذي يليه:
ولو كان مما يستطاع استطعته
ثم ذيّل هذا المعنى بإخراج بقية البيت مخرج المثل السائر ليكثر دورانه على الألسنة فيحصل تجديد مدح الممدوح كل حين، والتنويه بذكره في كل زمان، حيث قال:
ولكنّ ما لا يستطاع شديد
أما إذا خرجت المبالغة عن حدّ الإمكان، وجرت مجرى الكذب المحض، فإنها مذمومة في الشرع وإن كان الشعراء يستبيحون مثل ذلك ولا يتحاشون الوقوع فيه. وقد أخبر تعالى عنهم بالكذب بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ
«1» وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل «2»
إشارة لذلك أيضا.
فمن المبالغة في الشعر المنتهية إلى حدّ الكذب قول «1» البحتري:
ولو قست يوما حجلها بحقابها
…
لكانا سواء لا بل الحجل أوسع «2»
وصفها برقّة الخصر وغلظ الساق حتّى جعل حجلها الذي يدور على ساقها أوسع من حقابها الذي يدور على خصرها؛ وأبلغ منه قول الآخر «3» :
من الهيف لو أنّ الخلاخيل «4» صيّرت
…
لها وشحا جالت عليها الخلاخل
فجعل الخلخال يجول في بدنها، ولكنه ليس من المدح في شيء لأن الخلخال لو صار وشاحا للمرأة لكانت في غاية الدّمامة حتّى تصير في خلقة الجرو «5» والهرّ.
وأبلغ منه قول الآخر:
ورحب صدر لو انّ الأرض واسعة
…
كوسعه لم يضق عن أهله بلد
فجعل صدره في السّعة والرّحب أوسع من الأرض، ونحوه قول الآخر «6» :
ويوم كطول الدّهر في عرض مثله
…
ووجدي من هذا وهاذاك أطول
إلا أنه استعمل العرض في غير موضعه؛ إذ الدهر يوصف بالطول لا بالعرض، وهو قد جعل له طولا وعرضا؛ ويقرب منه قول أبي الطّيّب:
كفى بجسمي نحولا أنّني رجل
…
لولا مخاطبتي إيّاك لم أبن «7»