الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: فانظر إلى هذا: وجنة، وحبيب، ودينار، وإلى ذلك: سرم، وبغل، وروث. وشتّان ما بينهما.
الصفة الثالثة من صفات اللفظ المفرد الفصيح ألّا يكون متنافر الحروف
، فإن كانت حروفه متنافرة بحيث يثقل على اللسان ويعسر النطق به فليس بفصيح وذلك نحو لفظ الهعخع في قول بعض العرب عن ناقة: تركتها ترعى الهعخع بالخاء المعجمة والعين المهملة، وهو نبت أسود، وكذلك لفظ مستشزرات من قول امريء القس في قصيدته اللامية التي من جملة القصائد السبع الطّوال:
غدائره مستشزرات إلى العلا
…
تضلّ المداري في مثنّى ومرسل
فلفظ مستشزرات من المتنافر الذي يثقل على اللسان، ويعسر النطق به.
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في «المثل السائر» : ولقد رآني بعض الناس وأنا أعيب على امريء القيس هذا اللفظ فأكبر ذلك لوقوفه مع شبهة التقليد في أن امرأ القيس أشعر الشعراء، فعجبت من ارتباطه بمثل هذه الشبهة الضعيفة، وقلت له: لا يمنع إحسان امريء القيس من استقباح ماله من القبيح، بل مثال ذلك كمثال غزال المسك فإنه يخرج منه المسك والبعر، ولا يمنع طيب ما يخرج من مسكه من خبث ما يخرج من بعره، ولا تكون لذاذة ذلك الطّيب حامية للخبيث من الاستكراه، فأسكت الرجل عند ذلك.
إذا علمت ذلك، فإن معظم اللغة العربية دائرة على ذلك، لأن الواضع قسّمها في وضعه إلى ثلاثة أقسام: ثلاثيّا، ورباعيّا، وخماسيّا، فالثلاثيّ من الألفاظ هو الأكثر، ولا يوجد فيه ما يكره استعماله إلا النادر؛ والخماسيّ هو الأقلّ، ولا يوجد فيه ما يستعمل إلا الشاذ النادر، والرباعيّ وسط بين الثّلاثيّ والخماسيّ في الكثرة عددا واستعمالا، فيكون أكثر اللغة مستعملا غير مكروه. قال: ولا تقتضي حكمة هذه اللغة التي هي سيّدة اللغات إلا ذلك؛ ولذلك أسقط الواضع منها
حروفا كثيرة في تأليف بعضها مع بعض استثقالا واستكراها، فلم يؤلّف بين حروف الحلق كالحاء والعين، وكذلك لم يؤلف بين الجيم والقاف، ولا بين اللام والراء، ولا بين الزاي والسين، وذلك دليل على عنايته بتأليف المتباعد المخارج دون المتقارب؛ وكيف كان الواضع يخلّ بمثل هذا الأصل الكلّي في تحسين اللغة وقد اعتنى بأمور جزئية دون ذلك! كمماثلته بين حركات الفعل في الوجود وبين حركات المصدر في النطق كالغليان، والضّربان، والنّقزان، والنّزوان، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، فإن جميع حروفه متحركات ليس فيها حرف ساكن، وهي مماثلة لحركات الفعل في والوجود.
ومن نظر في حكمة وضع هذه اللغة إلى هذه الدقائق التي هي كالأطراف والحواشي فكيف كان يخلّ بالأصل المعوّل عليه في تأليف الحروف بعضها إلى بعض!. على أنه لو أراد الناظم أو الناثر أن يعتبر مخارج الحروف عند استعمال الألفاظ، أهي متباعدة أو متقاربة، لطال الخطب في ذلك وعسر، ولما كان الشاعر ينظم قصيدا، ولا الكاتب ينشيء كتابا إلا في مدّة طويلة، والأمر بخلاف ذلك، فإن حاسّة السمع هي الحاكمة في هذا المقام في تحسين لفظ وتقبيح آخر؛ على أنه قد يجيء من المتقارب المخارج ما هو حسن رائق، ألا ترى أن الحروف الشّجريّة، وهي الجيم والشين والياء، متقاربة المخارج لأنها تخرج من وسط اللسان بينه وبين الحنك، وإذا ترتب منها لفظ جاء حسنا رائقا، فإن لفظة جيش قد اجتمع فيها الحروف الشّجريّة الثلاثة، وهي مع تقارب مخارجها حسنة رائقة؛ وكذلك الحروف الشّفهية وهي الباء والميم والفاء متقاربة المخارج، فإن مخرج جميعها من الشّفة؛ وإذا ترتب منها لفظ جاء سلسا غير متنافر، كقولك أكلت بفمي، وهو في غاية الحسن، والحروف الثلاثة الشفهية مع تقارب مخارجها مجتمعة فيها؛ وقد يجيء من المتباعد المخارج ما هو قبيح متنافر، كقولك: ملع بمعنى عدا، فإن الميم من الشفة، والعين من حروف الحلق، واللام من وسط اللسان؛ فهذه الحروف كلها متباعدة من بعضها ومع ذلك فإنها كريهة الاستعمال، ينبو عنها الذوق السليم، ولو كان التباعد سببا للحسن لما كان سببا للقبح؛ على أنه لو عكست
حروف هذه اللفظة صارت علم وعاد القبح منها حسنا؛ مع أنه لم يتغير شيء من مخارجها، على أن اللام لم تزل فيها وسطا والميم والعين يكتنفانها من جانبيها؛ ولو كانت مخارج الحروف معتبرة في الحسن والقبح لما تغيرت هذه اللفظة بتقديم بعض الحروف وتأخير بعض، وليس ذلك لأن إدخال الحروف من الشّفة إلى الحلق في ملع أعسر من إخراجها من الحلق إلى الشّفة في علم، فإنّ لفظة بلع فيها الباء وهي من حروف الشفة، واللام وهي من وسط اللسان، والعين وهي من حروف الحلق وهي غير مكروهة.
قال في «المثل السائر» : ولربما اعترض بعض الجهال بأن الاستثقال في لفظ مستشزرات إنما هو لطولها وليس كذلك، فإنا لو حذفنا منها الألف والتاء وقلنا مستشزر لكان ثقيلا أيضا، لأن الشين قبلها تاء وبعدها زاي؛ فثقل النطق بها؛ نعم لو أبدلنا من الزاي راء ومن الراء فاء فقلنا مستشرف لزال ذلك؛ ومن ثمّ ظهر لك أن اعتبار ابن سنان «1» تركيب الكلمة من أقل «2» الأوزان تركيبا غير معتبر، وقد ورد في القرآن العظيم ألفاظ طوال لا شكّ في حسنها وفصاحتها كقوله تعالى:
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
«3» وقوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
«4» فإن لفظ فسيكفيكهم مركب من تسعة أحرف، ولفظ ليستخلفنهم مركب من عشرة أحرف، ولفظ مستشزرات مركب من ثمانية أحرف. قال: والأصل في هذا الباب أن الأصول لا تحسن إلا من الثلاثيّ وفي بعض الرّباعيّ، كقولك عذب وعسجد، فالأولى ثلاثيّة، والثانية رباعيّة؛ أما الخماسيّ من الأصول فإنه