الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عذبة، وكذلك سائر ما في وزنها نحو اخشوشن المكان، واغرورقت العين، واحلولى الطعم، وما أشبه ذلك.
قال في «المثل السائر» : وهذا كله مما أخذته بالاستقراء، وفي اللغة مواضع كثيرة من ذلك لا يمكن استقصاؤها.
فانظر إلى ما يفعله اختلاف الصيغة بالألفاظ، وعليك بتفقّد أمثال هذه الكلمات لتعلم كيف تضع يدك في استعمالها، فكثيرا ما يقع فحول الخطباء والشعراء في مثلها، ومؤلّف الكلام من كاتب وشاعر إذا مرّت به الألفاظ عرضها على ذوقه الصحيح، فما يجده الحسّ منها موحّدا وحّده، وما يجده الحس منها مجموعا جمعه؛ وكذلك يجري الحكم فيما سوى ذلك من الألفاظ.
الصنف الثالث المتوحش في زمن دون زمن
وهو ما كان متداول الاستعمال في زمن العرب، ثم رفض وترك بعد ذلك، وبهذا لا يعاب استعماله على العرب لأنه لم يكن عندهم وحشيّا، ولا لديهم غريبا، كما سيأتي التنبيه عليه، وإنما يعاب استعماله على غيرهم ممن قصر فهمهم عنه، وقلّت معرفتهم به؛ وقد كان كلام العرب مشحونا به في نظمهم ونثرهم، دائرا على ألسنتهم في مخاطباتهم ومحاوراتهم، غير معيب ولا ملوم عليه، وانظر إلى ما تضمنته خطبهم وأشعارهم من الغريب ترى ذلك [غير معاب]، فمن ذلك قول أبي المثلّم الهذليّ:
آبي الهضيمة ناب «1» بالعظيمة متلاف الكريمة جلد غير ثنيان «2» حامي الحقيقة نسّال الوديقة معتاق الوسيقة لا نكس ولا وان «3»
ربّاء مرقبة منّاع مغلبة
…
وهّاب سلهبة قطّاع أقران «1»
هبّاط أودية حمّال ألوية
…
شهّاد أندية سرحان فتيان «2»
وقول أعرابيّ في وصف إبل: كوم بهازر، مكد خناجر، عظام الحناجر، سباط المشافر، أجوافها رغاب، وأعطانها رحاب، تمنع من البهم، وتبرك للجمم. يريد بالكوم جمع كوماء، وهي الناقة العظيمة السّنام، والبهازر جمع بهزرة، وهي الناقة العظيمة، والمكد جمع مكود، وهي الناقة الغزيرة اللبن، والخناجر جمع خنجور، وهي بمعنى المكود أيضا، والعظام الحناجر: غلاظ الأعناق، وسباط المشافر أي مرسلات المشافر، والمشفر من الناقة كالجحفلة من الفرس؛ ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى وينخرط في هذا السّلك؛ فهذا ومثله لا يعاب استعماله على العرب لأنه لم يكن عندهم غريبا ولا لديهم وحشيّا، بل شائعا بينهم، دائرا على ألسنتهم في نظمهم ونثرهم؛ وأعظم شاهد لاستحسان استعماله عندهم ووضوح منهجه لديهم أن القرآن الكريم الذي هو أفصح كلام وأبهج لفظ قد اشتمل على ألفاظ من ذلك، كقوله تعالى: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ
«3» وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
«4» وما أشبه ذلك، وهذه الألفاظ كانت مفهومة عند العرب، معلومة المعاني عند المخاطبين: لأن الله تعالى قد خاطبهم به وأمرهم فيه ونهاهم، والخطاب بما لا يفهم بعيد، وقد قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ
«5» . وكذلك ورد في الأخبار النبوية
جملة مستكثرة من ذلك، وهي المعبر عنها بغريب الحديث، كقوله صلى الله عليه وسلم «من قعد مقعدا لم يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله تعالى ترة» أي نقص، وقيل تبعة، وقيل حسرة. وقوله صلى الله عليه وسلم:«ليسترجع أحدكم حتّى في شسع نعله فإنها من المصائب» والشّسع: أحد سيور النعل؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: «ألظّوا بياذا الجلال والإكرام» أي الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها، وقوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء:«واغسل حوبتي واسلل سخيمة قلبي» «1» وأشباه ذلك.
وحديث أمّ زرع صريح في شيوع ذلك فيهم، وعمومه في مخاطباتهم ومكالماتهم؛ وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:
«جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن ألّا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا.
قالت الأولى: زوجي لحم جمل غثّ على رأس جبل «2» ، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، وفي رواية فينتقل «3» .
قالت الثانية: زوجي لا أبثّ خبره، إنّي أخاف ألّا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره «4» .
قالت الثالثة»
: زوجي العشنّق «6» ، إن أنطق أطلّق، وإن أسكت أعلّق.
قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حرّ ولا قرّ ولا خوف ولا سآمة «1» .
قالت الخامسة «2» : زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد «3» .
قالت السادسة «4» : زوجي إن أكل لفّ، وإن شرب اشتفّ، وإن اضطجع التفّ، ولا يولج الكفّ، ليعلم البثّ «5» .
قالت السابعة «6» : زوجي غياياء طباقاء، كلّ داء له داء، شجّك أو فلّك أو جمع كلّالك «7» .
قالت الثامنة «8» : زوجي الريح ريح زرنب، والمسّ مسّ أرنب «9» .
قالت التاسعة «10» : زوجي رفيع العماد، طويل النّجاد، عظيم الرّماد، قريب
البيت من النّاد.
قالت العاشرة «1» : زوجي مالك، وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل قليلات المسارح، كثيرات المبارك، وإذا سمعن صوت المزهر أيقنّ أنهنّ هوالك.
قالت الحادية عشرة «2» : زوجي أبو زرع، وما أبو زرع «3» ؟ أناس «4» من حليّ أذنيّ، وملأ من شحم عضديّ، وبجّحني فبجحت إليّ نفسي، ووجدني في أهل غنيمة بشقّ «5» ، فجعلني في أهل صهيل وأطيط «6» ودائس «7» ومنقّ «8» ؛ فعنده أقول فلا أقبّح، وأرقد فأتصبّح، وأشرب فأتقنّح «9» ، (وفي رواية فأتقمّح) ؛ أمّ أبي زرع، فما أمّ أبي زرع؟ عكومها «10» رداح، وبيتها فساح؛ ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسلّ شطبة «11» ، وتشبعه ذراع
الجفرة «1» ؛ بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها، وطوع أمّها «2» ، وملء كسائها، وغيظ جارتها «3» ؛ جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع؟ لا تنثّ حديثنا تنثيثا (وفي رواية لا تبثّ حديثنا تبثيثا) ، ولا تنقّث ميرتنا تنقيثا «4» ، ولا تملأ بيتنا تعشيشا»
. قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض «6» ، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمّانتين «7» ، فطلّقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سريّا، ركب شريّا «8» ، وأخذ خطّيّا «9» ، وأراح عليّ نعما ثريّا، وأعطاني من كلّ رائحة زوجا، (وفي رواية فأعطاني من كل ذابحة زوجا) وقال: كلي أمّ زرع وميري أهلك، فلو جمعت كلّ شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع» .
قالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» وفي رواية «غير أنّي لا أطلّقك» .
فإذا كان هذا كلام نسائهم الدائر فيما بينهن من محادثاتهن مع بعضهن في خلواتهن، فما ظنك بفرسان الكلام في نظمهم ونثرهم! فأنّى يعاب عليهم ذلك، وينكر عليهم الإتيان بمثله! وقد اختصم رجل وامرأة إلى يحيى بن يعمر «1» ، وهو من أكابر التابعين وجلّتهم، فقال للرجل: أأن سألتك ثمن شكرها وشبرك، أنشأت تطلّها وتضهلها «2» ؟ أما غير العرب ممن تكلف ذلك وأتى به في كلامه المعتاد في مخاطباته أو نثره ونظمه فإنه يعاب عليه ذلك، وينحط به عن درجة الفصاحة، ويخرج به عن قانونها، إذ المقصود من الكلام إنما هو الإفهام لا غير، فيخاطب كلّ أحد بما يفهمه ولا يكلّف بما لا يعلمه، وخير الكلام ما جاد وأفاد.
قال بشر بن المعتمر «3» : إيّاك والتّوعّر، فإنه يسلمك الى التعقيد والتقييد، وهو الذي يستهلك معانيك ويمنعك مراميك.
قال أبو هلال العسكري: وربما غلب سوء الرأي وقلة العقل على بعض علماء العربية فيخاطبون السّوقيّ، والمملوك والأعجميّ، بألفاظ أهل نجد، ومعاني أهل السّراة وحكاياتهم في ذلك كثيرة.
قال أبو نصر الجوهريّ: سقط عيسى بن عمر «4» عن حمار له فاجتمع عليه الناس فقال: ما لكم تكأكأتم عليّ تكأكؤكم على ذي جنّة! افرنقعوا عنّي. أي ما لكم اجتمعتم عليّ اجتماعكم على ذي جنّة تفرّقوا عني. وذكر الجاحظ هذه الحكاية عن أبي علقمة النحويّ بزيادة فقال: مرّ أبو علقمة ببعض طرق البصرة
فهاجت به مرّة فوثب عليه قوم يعضّون إبهامه ويؤذّنون في أذنه، فأفلت من أيديهم وقال: ما لكم تكأكأتم عليّ كما تكأكؤون على ذي جنّة! افرنقعوا عنّي. فقال بعضهم: دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهنديّة.
وقال أبو علقمة يوما لحاجمه: اشدد قصب اللهازم «1» ، وأرهف ظبات «2» المشارط، وأمرّ المسح «3» ، واستنجل «4» الرّشح، وخفّف الوطء، وعجل النّزع، ولا تكرهنّ أبيّا «5» ، ولا تردّن أتيّا «6» ؛ فقال له الحجّام: ليس لي علم بالحروف «7» .
ونظر إليه رجل وتحته بغل مصريّ حسن المنظر، فقال: إن كان مخبر هذا البغل كمنظره فقد كمل، فقال أبو علقمة: والله لقد خرجت عليه من مصر فتنكّبت الطريق مخافة السّرّاق وجور السلطان، فبينا أنا أسير في ليلة ظلماء قتماء، طحياء مدلهمّة، حندس «8» داجية، في صحصح «9» أملس، إذ أحسّ بنبأة «10» من صوت نغر «11» ، أو طيران ضوع «12» ، أو نغض سبد «13» فحاص عن الطريق متنكّبا لعزّة نفسه، وفضل قوّته، فبعثته باللجام فعسل «14» ، وحرّكته بالركاب فنسل «15» ؛ وانتعل
الطريق يغتاله معتزما، والتحف الليل لا يهابه مظلما، فو الله ما شبّهته إلا بظبية نافرة تحفزها «1» فتخاء شاغية «2» ؛ فقال الرجل: فادع الله وسله أن يحشر معك هذا البغل يوم القيامة، قال: ولم؟ قال: ليجيزك الصّراط بطفرة «3» .
وكانت امرأة تأكل الطّين فحصل لها بسببه إسهال مرضت منه، وكان لها ولد يتكلم بالغريب، فكتب رقاعا وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السّلام فيها:
صين امرؤ ورعي، دعا لامرأة إنقحلة مقسئنّة «4» قد منيت بأكل الطّرموق «5» فأصابها من أجله الاستمصال «6» أن يمنّ الله عليها بالاطرغشاش «7» . فكل من قرأ رقعته، دعا عليه ولعنه ولعن أمّه.
وحكى محمد بن أبي المغازي «8» الضبي عن أبيه قال: كان لنا جار بالكوفة لا يتكلم إلا بالغريب، فخرج إلى ضيعة له على حجر معها مهر فأفلتت، فذهبت ومعها مهرها فخرج يسأل عنها، فمرّ بخيّاط فقال: يا ذا النّصاح «9» وذات السّمّ «10» ، الطاعن بها في غير وغّى لغير عدى، هل رأيت الخيفانة القبّاء «11» يتبعها الحاسن المسرهف «12» ؟ كأنّ غرّته القمر الأزهر، ينير في حضره كالخلّب الأجرد؟ فقال