الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يبقى معها أهل ولا ولد، ولا أمّ ولا أب.
الطرف الثاني في الآلات التي تشتمل عليها الدواة، وهي سبع عشرة آلة، أوّل كل آلة منها ميم
الآلة الأولى- المزبر
(بكسر الميم) ، وهو القلم أخذا له من قولهم زبرت الكتاب إذا اتقنت كتابته، ومنه سميت الكتب زبرا كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ
«1» وفي حديث أبي بكر أنه دعا في مرضه بدواة ومزبر أي قلم. وفيه جملتان:
الجملة الأولى في فضله
عن الوليد بن عبادة بن الصامت «2» رضي الله عنه قال: دعاني أبي حين حضره الموت فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أوّل ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: يا ربّ وما أكتب؟ قال: اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد» رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي «3» ، وقال: حسن غريب، وابن أبي حاتم واللفظ له. وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه «إن أوّل ما خلق الله القلم والحوت، فقال له اكتب، فقال: يا ربّ وما أكتب؟ قال: اكتب كلّ شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ
رواه الطبراني ووقفه ابن جرير على ابن عبّاس. وفي رواية قال ابن عباس: «أوّل ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال:
اكتب القدر، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة، ثم خلق النون
ورفع بخار الماء، فتفتّقت منه السماء وبسطت الأرض على ظهر النّون، فاضطرب النّون، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض لأنها أثبتت عليها» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وروى محمد بن عمر المدائني بسنده إلى مجاهد «إن أوّل ما خلق الله اليراع، ثم خلق من اليراع القلم، فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: ما هو كائن، قال: فزبر القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» . وأخرج بسنده إلى ابن عباس، قال:«أوّل ما خلق الله اليراع: وهو القصب المثقّب، فقال: اكتب قضائي في خلقي إلى يوم القيامة» . ويروى أنه لما خلقه الله تعالى نظر إليه فانشقّ بنصفين، ثم قال: اجر! قال: يا رب بما أجري؟ قال: بما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك، وكان منه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ
«1» . ويروى أنّ خلقه قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
واعلم أن القلم أشرف آلات الكتابة وأعلاها رتبة، إذ هو المباشر للكتابة دون غيره، وغيره من آلات الكتابة كالأعوان، وقد قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ
«2» فأقسم به، وذلك في غاية الشرف. ولله أبو الفتح البستيّ «3» حيث يقول:
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم
…
وعدّوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتّاب عزّا ورفعة
…
مدى الدّهر أن الله أقسم بالقلم
وقال تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
«4» فأضاف التعليم
بالقلم إلى نفسه. قال ابن الهيثم «1» : من جلالة القلم أن الله عز وجل لم يكتب كتابا إلا به، لذلك أقسم به. قال المدائني: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من قلم قلما يكتب به علما أعطاه الله شجرة في الجنة خير من الدّنيا وما فيها» . وقد قيل الأقلام مطايا الفطن، ورسل الكرم. وقال عبد الحميد: القلم شجرة ثمرها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة، وفيه ريّ العقول الكامنة. وقال جبل بن زيد: القلم لسان البصر يناجيه بما ستر عن الأسماع. وقال ابن المقفّع: القلم بريد العلم يحث على البحر «2» ، ويبحث عن خفيّ النظر. وقال أحمد بن يوسف: ما عبرات الغواني في خدودهن بأحسن من عبرات الأقلام. وقيل: القلم الطلسم الأكبر. وقيل: البيان اثنان: بيان لسان، وبيان بنان؛ ومن فضل بيان البنان أن ما تثبته الأقلام باق على الأبد، وما ينبسه اللسان تدرسه الأيام. ويقال: عقول الرجال تحت أسنّة أقلامها، بنوء الأقلام يصوب غيث الحكمة. وقال جعفر بن يحيى: لم أر باكيا أحسن تبسّما من القلم.
قال ابن المعتز: القلم مجهّز لجيوش الكلام، تخدمه الإرادة، ولا يملّ من الاستزادة، كأنه يقبّل بساط سلطان، أو يفتّح نور بستان.
ومن إنشاء الوزير ضياء الدين بن الأثير الجزريّ، من جواب كتبه للعماد الأصفهاني: وكيف لا يكون ذلك، وقلمها هو اليراع الذي نفثت الفصاحة في روعه، وكمنت الشجاعة بين ضلوعه، فإذا قال أراك كيف تنسّق الفرائد في الأجياد.
ومن كلام أبي حفص بن برد الأندلسيّ «3» : ما أعجب شأن القلم! يشرب
ظلمة، ويلفظ نورا؛ قد يكون قلم الكاتب، أمضى من شباة المحارب؛ القلم سهم ينفذ المقاتل، وشفرة تطيح بها المفاصل. ومن كلام العميد عمر بن عثمان الكاتب: قلم يطلق الآجال والأرزاق، وينفث السّم والدّرياق؛ قلم تدق عن الإدراك حركاته، وتحلّى بالنفائس فتكاته؛ يسرع ولا انحدار السيل إلى قراره، وانقداح الضوء من شراره، معطوفة الغايات على المبادي، مصروفة الأعجاز إلى الهوادي؛ وإذا صال أراك كيف اختلاف الرماح بين الآساد. وله خصائص أخرى يبدعها إبداعا، فإذا لم يأت بها غيره تطبّعا أتى بها هو طبعا، فطورا يرى إماما يلقي درسا، وطورا يرى ماشطة تجلو عرسا، وطورا يرى ورقاء تصدح في الأوراق، وطورا يرى جوادا مخلّقا بخلوق السّباق، وطورا أفعوانا مطرقا، والعجب أنه لا يزهو إلا عند الإطراق! ولطالما نفث سحرا، وجلب عطرا، وأدار في القرطاس خمرا؛ وتصرّف في صنوف الغناء فكان في الفتح عمر «1» ، وفي الهدي عمّارا «2» ، وفي الكيد عمرا «3» فلا تحظى به دولة إلّا فخرت على الدول، واستغنت عن الخيل والخول.
وقال الإسكندر: لولا القلم ما قامت الدنيا، ولا استقامت المملكة. وكلّ شيء تحت العقل واللسان لأنهما الحاكمان على كل شيء، والقلم يريكهما صورتين، ويوجدكهما شكلين.
وقال بعض حكماء اليونان: أمور الدنيا تحت شيئين: السيف والقلم، والسيف تحت القلم. وقال آخر: فاقت صنعة القلم عند سائر الأمم جمع الحكم في صحون الكتب. وقال العتابي: ببكاء القلم تبسم الكتب. وقال البحتري:
الأقلام مطايا الفطن. وقال أبو دلف العجليّ «4» : القلم صائغ الكلام، يفرغ ما
يجمعه الفكر، ويصوغ ما يسبكه اللب. وقال سهل بن هارون «1» : القلم أنف الضمير، إذا رعف أعلن أسراره، وأبان آثاره. وقال ثمامة «2» : ما أثّرته الأقلام لم تطمع في درسه الأيام. وقال هشام بن الحكم: أحسن الصنيع صنيع القلم والخطّ الذي هو جنى العقول. وقال علي بن منصور: بنور القلم تضيء الحكمة. وقال الجاحظ: من عرف النعمة في بيان اللسان كان بفضل النعمة في بيان القلم أعرف.
وقال غيره: بالقلم تزفّ بنات العقول إلى خدور الكتب. وقال المأمون: لله درّ القلم كيف يحوك وشي المملكة. وقال بعض الأعراب: القلم ينهض بما يظلع «3» بحمله اللّسان، ويبلغ ما لا يبلغه البيان. وقال بعضهم: القلم يجعل للكتب ألسنا ناطقة، وأعينا ملاحظة؛ وربما ضمنها من ودائع القلوب ما لا تبوح به الإخوان عند المشاهدة. وقال أوميرس الحكيم: الخط شيء أظهره العقل بواسطة سن القلم، فلما قابل النفس عشقته بالعنصر. وقال مرطس الحكيم: الخط بالقلم ينمّي الحكمة. وقال جالينوس: القلم الطلسم الأكبر. وقال بقراط: القلم على «4» إيقاع الوتر، والمهنة المنطقية مقدّمة على المهنة الطبيعية. وقال بليناس: القلم طبيب المنطق. قال أرسطاطاليس: القلم العلّة الفاعلة، والمداد العلة الهيولانيّة، والخط العلة الصّورية، والبلاغة العلّة التمامية. وقد أكثر الشعراء القول في شرف القلم وفضله.
فمن ذلك قول أبي تمّام الطائيّ:
إن يخدم القلم السّيف الذي خضعت
…
له الرّقاب وذلّت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شيء يغالبه
…
ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت
…
أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وقوله:
لك القلم الأعلى الذي بشباته
…
تصاب من الأمر الكلي والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
…
وأري الجنى اشتارته أيد عواسل
له ريقة ظلّ ولكنّ وقعها
…
بآثاره في الشّرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب
…
وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الحمس اللّطاف وأفرغت
…
عليه شعاب الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف القنا وتقوّضت
…
لنجواه تقويض الخيام الجحافل
إذا استغزر الذهن الجليّ وأقبلت
…
أعاليه في القرطاس وهي أسافل
وقد رفدته الخنصران وسدّدت
…
ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل
رأيت جليلا شأنه وهو مرهف
…
ضنا وسمينا خطبه وهو ناحل
وقول أبي هلال العسكريّ:
انظر إلى قلم ينكّس رأسه
…
ليضمّ بين موصّل ومفصّل
تنظر إلى مخلاب ليث ضيغم
…
وغرار مسنون المضارب مفصل
يبدو لناظره بلون أصفر
…
ومدامع سود وجسم منحل
فالدّرج أبيض مثل خدّ واضح
…
يثنيه أسود مثل طرف أكحل
قسم العطايا والمنايا في الورى
…
فإذا نظرت إليه فاحذر وأمل
طعمان شوب حلاوة بمرارة
…
كالدّهر يخلط شهده بالحنظل
فإذا تصرّف في يديك عنانه
…
ألحقت فيه مؤمّلا بمؤمّل
ومذلّلا بمعزّز ولربّما
…
ألحقت فيه معزّزا بمذلّل
وقوله:
لك القلم الجاري ببؤس وأنعم
…
فمنها بواد ترتجى وعوائد