الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضرب الثاني ما اتفق فيه المعنى مع يسير اللفظ
«1»
فمن ذلك قول البحتريّ في وصف غلام:
فوق ضعف الصغير «2» إن وكل الأمر
…
إليه، ودون كيد الكبار «3»
أخذه من قول أبي نواس:
لم يجف من كبر عما يراد به
…
من الأمور ولا أزرى به الصّغر
وقول أبي تمّام:
لم أمدحك تفخيما بشعري
…
ولكنّي مدحت بك المديحا
أخذه من قول حسان بن ثابت يمدح النبيّ صلى الله عليه وسلم:
ما إن مدحت محمدا بمقالتي
…
لكن مدحت مقالتي بمحمّد «4»
وقول أبي الطّيّب:
أين أزمعت أيّها ذا الهمام
…
نحن نبت الرّبا وأنت الغمام
أخذه من قول بشّار:
كأنّ الناس حين تغيب عنهم
…
نبات الأرض أخطأه القطار
الصنف الثاني التقليد في المعاني
وهذا مما لا يستغني عنه ناظم ولا ناثر. قال أبو هلال العسكريّ رحمه الله في
كتابه «الصناعتين» : ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعاني ممن تقدمهم والصّبّ على قوالب من سبقهم، ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظا من عندهم، ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ويوردوها في غير حليتها الأولى، ويزيدوا عليها في حسن تأليفها وجودة تركيبها، وكمال حليتها ومعرضها، فإذا فعلوا ذلك فهم أولى بها ممن سبق إليها. قال: ولولا أن القائل يؤدّي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول، وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين؛ وقد قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه: لولا أن الكلام يعاد لنفد. ومن كلام بعضهم:
كل شيء إذا ثنيته قصر إلا الكلام، فإنك إذا ثنيته طال، والمعاني مشتركة بين العقلاء، فربما وقع المعنى الجيّد للسّوقيّ والنّبطيّ والزّنجيّ. وإنما يتفاضل الناس في الألفاظ ورصفها، وتأليفها ونظمها، وقد أطبق المتقدّمون والمتأخرون على تداول المعاني بينهم، فليس على أحد فيه عيب إلا إذا أخذه بكل لفظه، أو أفسده في الأخذ وقصّر فيه عمن تقدّمه. قال في «الصناعتين» : وما يعرف للمتقدّم معنى شريف إلا نازعه فيه المتأخر وطلب الشركة فيه معه، إلا بيت عنترة:
وخلا الذّباب بها فليس ببارح
…
غردا كفعل الشارب المترنّم «1»
هزجا يحكّ ذراعه بذراعه
…
قدح المكبّ على الزّناد الأجذم «2»
فإنه ما نوزع فيه على جودته. قال: وقد رامه بعض المحدثين «3» فاتضح مع العلم بأن ابتكار المعنى والسبق إليه ليس فيه فضيلة ترجع إلى المعنى، وإنما ترجع الفضيلة فيه إلى الذي ابتكره وسبق إليه؛ فالمعنى الجيّد جيّد وإن كان مسبوقا إليه،
والوسط وسط والرديء رديء وإن لم يكن مسبوقا إليهما. على أن بعض علماء الأدب قد ذهب إلى أنه ليس لأحد من المتأخرين معنى مبتدع، محتجّا لذلك بأن قول الشعر قديم مذ نطق باللغة العربية، وأنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مرارا. قال في «المثل السائر» : والصحيح أن باب الابتداع مفتوح إلى يوم القيامة، ومن الذي يحجر على الخواطر وهي قاذفة بما لا نهاية له؟ إلا أنّ من المعاني ما يتساوى فيه الشعراء ولا يطلق عليه اسم الابتداع لأوّل قبل آخر لأن الخواطر تأتي به من غير حاجة إلى اتباع الآخر الأوّل، كقولهم في الغزل:
عفت الديار وما عفت
…
آثارهنّ من القلوب
وقولهم في المديح: إن عطاءه كالبحر أو كالسّحاب، وإنه لا يمنع عطاء اليوم عطاء غد، وإنه يجود بماله من غير مسألة؛ وأشباه ذلك.
وقولهم في المراثي: إن هذا الرزء أوّل حادث، وإنه استوى فيه الأباعد والأقارب، وإن الذاهب لم يكن واحدا وإنما كان قبيلة، وإنّ بعد هذا الذاهب لا يعدّ للمنيّة ذنب، وما أشبه ذلك. وكذلك سائر المعاني الظاهرة التي تتوارد عليها الخواطر من غير كلفة، ويستوي في إيرادها كلّ بارع. قال: ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم السرقة من الأوّل، وإنما يطلق اسم السرقة في معنى مخصوص كقول أبي تمّام:
لا تنكروا ضربي له من دونه
…
مثلا شرودا في النّدى والباس
فالله قد ضرب الأقلّ لنوره
…
مثلا من المشكاة والنّبراس
فإن هذا معنى ابتداعه مخصوص بأبي تمّام، وذلك أنه لما أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السنيية التي مطلعها:
ما في وقوفك ساعة من باس
انتهى إلى قوله منها:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
…
في حلم أحنف في ذكاء إياس «1»
فقال الحكيم الكنديّ: وأيّ فخر في تشبيه ابن أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟ فأطرق أبو تمّام ثم أنشد هذين البيتين معتذرا عن تشبيهه إيّاه بعمرو وحاتم وإياس. فالحال يشهد بابتداعه هذا المعنى، فمن أتى بعده بهذا المعنى أو بجزء منه كان سارقا له، وكذلك كلّ ما جرى هذا المجرى. ولم يزل الشعراء والخطباء يقتبسون من معاني من قبلهم، ويبنون على بناء من تقدّمهم.
فمما وقع للشعراء من ذلك قول أبي تمّام:
خلقنا رجالا للتّجلّد «2» والأسى
…
وتلك الغواني للبكا والمآتم
أخذه من قول عبد الله بن الزّبير لما قتل مصعب بن الزبير: وإنما التسليم والسّلو لحزماء الرجال، وإن الجزع والهلع لربّات الحجال؛ وقوله أيضا:
تعجّب «3» أن رأت جسمي نحيفا «4»
…
كأنّ المجد يدرك بالصّراع
أخذه من قول زياد ابن أبيه لأبي الأسود الدؤلي: لولا أنك ضعيف لاستعملتك، وقول أبي الأسود له في جواب ذلك: إن كنت تريدني للصّراع فإني لا أصلح له، وإلا فغير شديد أن آمر وأنهى، وقوله من قصيدة البيت المتقدّم:
أطال يدي على الأيّام حتّى
…
جزيت صروفها «5» صاعا بصاع
أخذه من قول أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه:
فإن تقتلا أو يمكن الله منكما «1»
…
نكل لكما «2» صاعا بصاع المكايل
وقول أبي الطّيّب المتنبي:
وإذا كانت النّفوس كبارا
…
تعبت في مرادها الأجسام
أخذه من قول أرسطوطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة.
وقول الخاسر «3» :
من راقب الناس مات غمّا
…
وفاز باللّذّة الجسور
أخذه من قول بشّار:
من راقب النّاس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج
فلما سمع بشّار بيت الخاسر قال: ذهب ابن الفاعلة ببيتي. ومثل هذا وأشباهه مما لا ينحصر كثرة، ولا يكاد أن يخلو عنه بيت إلا نادرا.
ومما وقع للكتّاب من ذلك ما كتب به إبراهيم بن العبّاس من قوله في فصل من كتاب: إذا كان للمحسن من الثواب ما يقنعه، وللمسيء من العقاب ما يقمعه، ازداد المحسن في الإحسان رغبة، وانقاد المسيء للحقّ رهبة. أخذه من قول عليّ كرم الله وجهه: يجب على الوالي أن يتعهّد أموره، ويتفقّد أعوانه، حتّى لا يخفى عليه إحسان محسن، ولا إساءة مسيء، ثم لا يترك واحدا منهما بغير جزاء؛ فإن ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وضاع العمل.
وما كتب به بعض الكتّاب في فصل وهو: لو سكت لساني عن شكرك، لنطق
أثرك عليّ. وفي فصل آخر: ولو جحدتك إحسانك، لأكذبتني آثارك، ونمّت عليّ شواهدها؛ أخذه من قول نصيب:
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب «1»
وما كتب به أحمد بن يوسف «2» من فصل وهو: أحقّ من أثبت لك العذر في حال شغلك، من لم يخل ساعة من برّك في وقت فراغك. أخذه من قول عليّ رضي الله عنه: لا تكونن كمن يعجز عن شكر ما أولي، ويلتمس الزيادة فيما بقي.
والاقتباس من الأحاديث والآثار كثير، وقد تقدّم الكلام عليه قبل ذلك. قال في «الصناعتين» : ومن أخفى أسباب السرقة أن يأخذ معنى من نظم فيورده في نثر، أو من نثر فيورده في نظم، أو ينقل المعنى المستعمل في صفة خمر فيجعله في مديح، أو في مديح فينقله إلى وصف؛ إلا أنه لا يصل لهذا إلا المبرّز الكامل المقدّم.
وقال في «المثل السائر» : أشكل سرقات المعاني، وأدقّها وأغربها، وأبعدها مذهبا، أن يؤخذ المعنى مجرّدا من اللفظ. قال: وذلك مما يصعب جدّا ولا يكاد يأتي إلا قليلا، ولا يتفطن له ويستخرجه من الأشعار إلا بعض الخواطر دون بعض.
فمن ذلك قول أبي تمّام في المدح:
فتى مات بين الضّرب والطّعن ميتة
…
تقوم مقام النّصر إذ فاته النّصر
أخذه من قول عروة بن الورد من شعراء الحماسة:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا
…
من المال يطرح نفسه كلّ مطرح