الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو هلال العسكري: وليس للمحدث أن يجعل هذه الأبيات حجة ويبنى عليها فإنه لا يعذر في شيء منها، لإجماع الناس اليوم على مجانبة أمثالها واستجادة ما يضح من الكلام ويستبين، واسترذال ما يشكل منه ويستبهم؛ وقد كان عمر رضي الله عنه يمدح زهيرا بأنه لم يكن يعاظل بين الكلام.
قال في «المثل السائر» : والفرزدق أكبر الشعراء تعاظلا وتعقيدا في شعره، كأنه كان يقصد ذلك ويتعمّده، لأن مثله لا يجيء إلا متكلّفا مقصودا، وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيّتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد، بدليل أن المقصود من الكلام معدوم في هذا النوع، إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى، فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به، ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما.
الضرب الثاني من التعقيد
- ألّا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد بخلل في انتقال الذهن من المعنى الأوّل المفهوم بحسب اللغة إلى الثاني المقصود، لإيراد اللوازم البعيدة المفتقرة إلى الوسائط الكثيرة، مع خفاء القرائن الدالة على المقصود، كقول العبّاس بن الأحنف:
سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا
…
وتسكب عيناي الدّموع لتجمدا
يريد إني أطلب بعد الدار عنكم لتقربوا مني، وتسكب عيناي الدّموع لتجمد وتكفّ الدمع بحصول التلاقي؛ والمعنى أنّي طبت نفسا بالبعد والفراق، ووطّنت نفسي على مقاساة الأحزان والأشواق، وأتجرّع الغصص، وأحتمل لأجلها حزنا يفيض الدّموع من عينيّ، لأتسبب بذلك إلى وصل يدوم، ومسرّة لا تزول، فتجمد عيني ويرقأ دمعي، فإن الصبر مفتاح الفرج؛ فكنّى بسكب الدموع عن الكآبة والحزن، وهو ظاهر المعنى لأنه كثيرا ما يجعل دليلا عليه، يقال: أبكاني الدهر وأضحكني يمعنى ساءني وسرّني، وكنّى بجمود العين عما يوجبه دوام التلاقي من الفرح والسرور؛ فإن المتبادر إلى الذهن من جمود العين بخلها بالدمع عند إرادة
البكاء حال الحزن، بخلاف ما قصده الشاعر من التعبير به عن الفرح والسرور، وإن كانت حالة جمود الدمع مشتركة بين بخل العين بالدمع عند إرادة البكاء، وبين زمن السرور الذي لم يطلب فيه بكاء، وكذلك يجري القول في كل لفظ مشترك ينتقل الذهن فيه من أحد المعنيين إلى الآخر إذا لم يكن هناك قرينة تصرفه إلى أحدهما، كما صرح به الرمانيّ «1» وغيره، خصوصا إذا كان أحد المعنيين الذي يدلّ عليه اللفظ المشترك مستقبحا كما نبه عليه ابن الأثير في الكلام على فصاحة اللفظ المفرد؛ ألا ترى أن لفظة التعزير مشتركة بين التعظيم والإكرام، وبين الإهانة بسبب الخيانة التي لا توجب الحدّ من الضرب وغيره، والمعنيان ضدّان، فحيث وردت معها قرينة صرفتها إلى معنى التعظيم جاءت حسنة رائقة، وكانت في أعلى درجات الفصاحة؛ وعلى نحو ذلك ورد قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
«2» وقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
«3» الآية، فإنه لما ورد معها قرينة التوقير في الآية الأولى وقرينة الإيمان والنصر في الآية الثانية زال اللبس وحسن الموقع؛ ولو وردت مهملة بغير قرينة بإرادة المعنى الحسن لسبق الفهم إلى المعنى القبيح، كما لو قلت عزّر القاضي فلانا وأنت تريد أنه عظمه، فإنه لا يتبادر من ذلك إلى الفهم إلا أنه أهانه، وعلى هذا النّهج يجري الحكم في الحسن والقبح مع القرينة وعدمها.
قال ابن الأثير رحمه الله: فما ورد مع القرينة فجاء حسنا قول تأبط شرّا:
أقول للحيان، وقد صفرت لهم
…
وطابي ويومي ضيّق الجحر معور
فإنه أضاف الجحر إلى اليوم فأزال عنه هجنة الاشتباه لأن الجحر يطلق على