الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فضرّجوه بالأضاميم «1» ، ولا توصيم «2» في الدين، ولا غمّة «3» في فرائض الله تعالى؛ وكل مسكر حرام، ووائل بن حجر يترفّل «4» على الأقيال» .
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله «في المثل السائر» : وفصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتضي استعمال هذه الألفاظ، ولا تكاد توجد في كلامه إلا جوابا لمن يخاطبه بمثلها كحديث طهفة وما جرى مجراه؛ على أنه قد كان في زمنه أوّلا متداولا بين العرب ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يستعمله إلا يسيرا لأنه أعلم بالفصيح والأفصح.
الصفة الثانية اللفظ الفصيح ألّا يكون مبتذلا عامّيّا، ولا ساقطا سوقيّا واللفظ المبتذل على قسمين
القسم الأوّل ما لم تغيره العامّة عن موضعه اللغويّ إلا أنها اختصت باستعماله دون الخاصة فابتذل لأجل ذلك وسخف لفظه
، وانحطّت رتبته لاختصاص العامّة بتداوله، وصار من استعمله من الخاصة ملوما على الإتيان به لمشاركة العامة فيه؛ وقد وقع ذلك لجماعة من فحول الشعراء فعيب عليهم.
فمن ذلك قول الفرزدق من قصيدة:
وأصبح مبيضّ الضّريب كأنه
…
على سروات النّبت قطن مندّف
فقوله مندّف من الألفاظ العامية المبتذلة، وإن كان له أصل في اللغة، يقال ندف القطن إذا ضربه بالمندف، ولذلك قيل للقطن المندوف: نديف.
ومن ذلك قول أبي نواس:
وملحّة بالعذل تحسب أنني
…
بالجهل أترك صحبة الشّطّار
فالشطار جمع شاطر، وهو في أصل اللغة اسم لمن أعيا أهله خبثا؛ يقال منه: شطر وشطر بالفتح والضم شطارة بالفتح فيهما، ثم استعمل في الشجاع الذي أعيا الناس شجاعة، وغلب دورانه على لسان العامة فامتهن وابتذل؛ فاستعمال أبي نواس له غير لائق، وكذلك قوله أيضا:
يا من جفاني وملّا
…
نسيت أهلا وسهلا
وما تمرحبت لما
…
رأيت ما لي قلّا
إني أظنّك فيما
…
فعلت تحكي القرلّى
فلفظ القرلّى من أشدّ ألفاظ العامة ابتذالا، وهو اسم لطائر صغير من طيور الماء يخطف صغار السمك من الماء برجليه ومنقاره، فإذا سقط على الماء ولم يحصل على صيد ارتفع بسرعة، فتضرب به العامة المثل تقول: فلان كأنه قرلّى، إن وجد خيرا تدلّى، وإن وجد شرّا تعلّى.
وقوله أيضا:
وأنمر الجلدة صيّرته
…
في الناس زاغا وشقرّاقا
ما زلت أجري كلكلي فوقه
…
حتّى دعا من تحته قاقا
فقوله: قاقا حكاية لصوت يضرب به المثل لصياح المغلوب، يقال: فعلت بفلان كذا وكذا حتّى قال: قاق؛ وأقبح من ذلك كله في الابتذال بين العامة والسّخافة قول المتنبي:
ومن الناس من يجوز عليهم
…
شعراء كأنها الخاز باز
قال في «المثل السائر» : وهذا البيت من مضحكات الأشعار وهو من جملة البرسام الذي ذكره في قوله:
إن بعضا من القريض هذاء
…
ليس شيئا وبعضه أحكام
فيه ما يجلب البراعة والفهم وفيه ما يجلب البرسام وعدّ منه في «المثل السائر» قول البحتريّ:
وجوه حسّادك مسودّة
…
أم صبغت بعدي بالزّاج؟
قال: فلفظة الزاج من أشدّ ألفاظ العامة ابتذالا، وكذلك عدّ منه قول النابغة الذّبيانيّ:
أو دمية في مرمر مرفوعة
…
بنيت بآجرّ يشاد بقرمد
قال فلفظة آجرّ مبتذلة جدّا. وإذا شئت أن تعلم شيئا من سرّ الفصاحة التي تضمنها القرآن الكريم، فانظر إلى هذا الموضع فإنه لما جيء فيه بذكر الآجرّ لم يذكر بلفظه، ولا بلفظ القرمد أيضا، ولا بلفظ الطّوب الذي هو لغة أهل مصر، فإن هذه الأسماء مبتذلة، لكن ذكر في القرآن على وجه آخر، وهو قوله تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً
«1» فعبر عن الآجرّ بالوقود على الطين؛ نعم من الألفاظ المبتذلة السخيفة لفظة الكنس، وما اشتق منه، ولذلك عابها القاضي الفاضل رحمه الله تعالى على ابن سناء الملك «2» في بعض أشعاره حيث قال من أبيات:
يزخرف منها وجهها فهو جنّة
…
ويخضرّ منها نضرة فهو سندس
صليني وهذا الحسن باق فربّما
…
يعزّل بيت الحسن منه ويكنس
فلما وقف القاضي الفاضل رحمه الله على هذا القصيدة كتب إلى ابن سناء الملك من جملة فصل: وما قلت هذه الغاية، إلا وتعلمني أنها البداية، ولا قلت هذا البيت آية القصيدة إلا تلا ما بعده: وما نريهم من آية. أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. ولا عيب في هذه المحاسن إلا قصور الأفهام، وتقصير الأنام، وإلا فقد لهج الناس بما تحتها، ودوّنوا ما دونها، وشغلوا التصانيف والخواطر والأقلام بما لا يقاربها، وسارت الأشعار وطالت بما لا يبلغ مدّها ولا نصيفه؛ والقصيدة فائقة في حسنها، بديعة في فنّها؛ وقد ذلّت السين فيها وانقادت، فلو أنها الراء لما رادت؛ وبيت يعزّل ويكنس أردت أن أكنسه من القصيدة، فإن لفظة الكنس غير لائقة في مكانها.
فأجابه ابن سناء الملك قائلا: وعلم المملوك ما نبه عليه مولانا من البيت الذي أراد أن يكنسه من القصيدة، وقد كان المملوك مشغوفا بهذا البيت، مستحليا له متعجبا منه، معتقدا أنه قد ملّح فيه، وأنّ قافية بيته أميرة ذلك الشعر وسيدة قوافيه، وما أوقعه في الكنس إلا ابن المعتز في قوله:
وقوامي مثل القناة من الخط
…
وخدّي من لحيتي مكنوس
والمولى يعلم أن المملوك لم يزل يجري خلف هذا الرجل ويتعثّر، ويطلب مطالبه فتتعسر عليه وتتعذر؛ ولا آنس ناره إلا لمّا وجد عليها هدى، ولا مال المملوك إلا إلى طريق من ميّله إليه طبعه؛ ولا سار قلبه إلا إلى من دلّه عليه سمعه؛ ورأى المملوك أبا عبادة «1» قد قال:
ويا عاذلي في عبرة قد سفحتها
…
لبين وأخرى قبلها للتجنّب
تحاول منّي شيمة غير شيمتي
…
وتطلب منّي مذهبا غير مذهبي
وقال:
وما زارني إلّا ولهت صبابة
…
إليه وإلّا قلت أهلا ومرحبا
فعلم المملوك أنّ هذه طريقة لا تسلك، وعقيلة لا تملك، وغاية لا تدرك؛ ووجد أبا تمّام قد قال:
سلّم على الرّبع من سلمى بذي سلم
وقال:
خشنت عليه أخت بني خشين
فاشمأزّ من هذا النّمط طبعه، واقشعرّ منه فهمه، ونبا عنه ذوقه، وكاد سمعه يتجرّعه ولا يكاد يسيغه؛ ووجد هذا السيد عبد الله بن المعتز قد قال:
وقفت في الرّوض أبكي فقد مشبهه
…
حتّى بكت بدموعي أعين الزّهر
لو لم أعرها دموع العين تسفحها
…
لرحمتي لاستعارتها من المطر
وقال:
قدّك غصن لا شكّ فيه كما
…
وجهك شمس نهاره جسدك
فوجد المملوك طبعه إلى هذا النّمط مائلا، وخاطره في بعض الأحيان عليه سائلا؛ فنسج على هذا الأسلوب، وغلب عليه خاطره مع علمه أنه المغلوب؛ «وحبّك الشيء يعمي ويصمّ» فقد أعماه حبّه وأصمه إلى أن نظم تلك اللفظة في تلك الأبيات تقليدا لابن المعتز حيث قالها، وحمل أثقالها؛ وهي تغفر لذاك في جنب إحسانه، فأما المملوك فهي عورة ظهرت من لسانه.
فأجابه القاضي الفاضل رحمه الله بقوله: ولا حجة فيما احتج به عن الكنس في بيت ابن المعتز، فإنه غير معصوم من الغلط، ولا يقلّد إلا في الصواب فقط، وقد علم ما ذكره ابن رشيق في عمدته من تهافت طبعه، وتباين وضعه، فذكر من محاسنه ما لا يعلّق معه كتاب، ومن بارده وغثّه ما لا تلبس عليه الثياب.
وقد تعصّب القاضي السعيد على أبي تمّام فنقصه من حظه، وللبحتريّ
فأعطاه أكثر من حقه، وما أنصفهما:
ولو كان هذا موضع العتب لا شتفى
…
فؤادي ولكن للعتاب مواضع
قال المولى صلاح الدين الصّفدي رحمه الله تعالى في شرح لامية العجم:
وقد استعمل ابن سناء الملك رحمه الله تعالى هذه اللفظة في غير هذا الموضع ولم يتّعظ بنهي الفاضل ولا ارعوى ولا ازدجر عما قبحه لأنه غلب عليه الهوى، فقال:
توسوس شعري به مدّة
…
وما برح الحلي والوسوسه
وخلّصني من يدي عشقه
…
ظلام على خدّه حندسه «1»
كنست فؤادي من عشقه
…
ولحيته كانت المكنسه
قال: وأما القاضي الفاضل، فما أظنه خلا في هذا الإيراد، من ضعف انتقاد؛ وأحاشي ذاك الذهن الوقّاد، من هذا الاعتقاد في ورطة هذا الاعتقاد؛ وما أراه إلا أنه تعمّد أن يعكس مراده، ويوهي ما شدّه ويوهن ما شاده؛ ويرميه ببلاء البلادة؛ إما على سبيل النّكال أو النّكادة، لأن الفاضل رحمه الله ممن يتوخّى هذه الألفاظ ويقصدها، وينشيها وينشدها، ويوري زنادها ويوردها.
فمن كلام القاضي الفاضل في بعض رسائله: وما استطاعت أيديهم أن تقبض جمره، ولا ألبابهم أن تسيغ خمره، ولا سيوفهم أن تكنس قميمه «2» .
قال في «المثل السائر» : ومثل هذه الألفاظ إذا وردت في الكلام، وضعت من قدره ولو كان معناه شريفا. قال: وهذا القسم من الألفاظ المبتذلة لا يكاد يخلو منه شعر شاعر، لكن منهم المقلّ ومنهم المكثر.