الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون قطعها لفلك البروج على النقطتين اللتين هما في غاية الميل والبعد عن معدّل النهار في جهتي الشمال والجنوب فتسمّى النقطة الشمالية نقطة المنقلب الصيفيّ وهي أوّل السّرطان، وتسمّى النقطة الجنوبية نقطة المنقلب الشّتويّ، وهي أوّل الجدي. واختلاف طبائع الفصول عن حركة الشمس وتنقّلها في هذه النّقط، فإنها إذا تحرّكت من الحمل، وهو أوّل البروج الشمالية أخذ الهواء في السّخونة لقربها من سمت الرؤوس وتواتر الإسخان إلى أن تصل إلى أوّل السرطان، وحينئذ يشتدّ الحرّ في السّرطان والأسد إلى أن تصل إلى الميزان، فحينئذ يطيب الهواء ويعتدل؛ ثم يأخذ الهواء في البرودة ويتواتر إلى أوّل الجدي، وحينئذ يشتدّ البرد في الجدي والدّلو لبعد الشمس من سمت الرؤوس إلى أن تصل إلى الحمل فتعود الشمس إلى أوّل حركتها.
المهيع الثالث في ذكر الفصول، وأزمنتها، وطبائعها، وما حصة كلّ فصل منها من البروج والمنازل؛ وهي أربعة فصول
الأول- فصل الربيع
- وابتداؤه عند حلول الشمس برأس الحمل، وقد تقدم ومدّته أحد وتسعون يوما وربع يوم ونصف ثمن يوم. وأوّله حلول الشمس رأس الحمل، وآخره عند قطعها برج الجوزاء؛ وله من الكواكب القمر، والزّهرة، ومن المنازل الشّرطان، والبطين، والثّريّا، والدّبران، والهقعة، والهنعة، والذّراع بما في ذلك من التداخل كما مر؛ ومن الساعات الأولى والثانية والثالثة؛ ومن الرّياح الجنوب؛ وطبعه حارّ رطب؛ وله من السّن الطّفولية والحداثة؛ ومن الاخلاط الدم، ومن القوى الهاضمة. وفيه تتحرّك الطبائع، وتظهر المواد المتولدة في الشّتاء، فيطلع النبات، وتزهر الأشجار وتورق، ويهيج الحيوان للسّفاد، وتذوب الثّلوج، وتنبع العيون، وتسيل الأودية، وأخذت الأرض زخرفها وازّينت فتصير كأنها عروس تبدّت لخطّابها، في مصبّغات ثيابها؛ ويقال: إذا نزلت الشمس رأس الحمل تصرّم الشتاء، وتنفّس الربيع، واختالت الأرض في وشيها
البديع، وتبرّجت للنظّارة في معرض الحسن والنّضارة.
ومن كلام الوزير المغربيّ «1» : لو كان زمن الربيع شخصا لكان مقبّلا، ولو أن الأيام حيوان لكان لها حليا ومجلّلا، لأن الشمس تخلص فيه من ظلمات حوت السماء، خلاص يونس من ظلمات حوت الماء؛ فإذا وردت الحمل وافت أحبّ الأوطان اليها وأعزّ أماكنها عليها.
وكان عبدوس الخزاعيّ يقول: من لم يبتهج بالربيع، ولم يستمتع بأنواره ولا استروح بنسيم أزهاره، فهو فاسد المزاج، محتاج إلى العلاج.
ويروى عن بقراط الحكيم مثله، وفيه بدل قوله:«فهو فاسد المزاج» فهو عديم حسّ، أو سقيم نفس. ولجلالة محلّ هذا الفصل في القلوب، ولنزوله من النفوس منزلة الكاعب الخلوب، كانت الملوك إذا عدمته استعملت ما يضاهي زهره من البسط المصوّرة المنقّشة، والنّمارق المفوّفة «2» المرقّشة. وقد كان لأنوشروان بساط يسميه بساط الشّتاء، مرصّع بأزرق الياقوت والجواهر، وأصفره وأبيضه وأحمره، وقد جعل أخضره مكان أغصان الأشجار، وألوانه بموضع الزّهر والنوار. ولما أخذ هذا البساط في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في واقعة القادسيّة، حمل إليه فيما أفاء الله على المسلمين؛ فلما رآه قال:«إن أمّة أدّت هذا إلى أميرها لأمينة» ثم مزّقه فوقع منه لعليّ عليه السلام قطعة في قسمه مقدارها شبر في شبر فباعها بخمسة عشر ألف دينار.
وقد أطنب الناس في وصف هذا الفصل ومدحه، وأتوا بما يقصر عن شرحه، وتغالى الشعراء فيه غاية التّغالي، وفضّلوا أيامه ولياليه على الأيّام والليالي، وما أحلى قول البحتريّ:
أتاك الربيع الطّلق يختال ضاحكا
…
من الحسن حتّى كاد أن يتكلّما
وقد نبّه النّوروز في غسق الدّجى
…
أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما
يفتّحها برد النّدى فكأنّما
…
يبثّ حديثا بينهنّ مكتّما
ومن شجر ردّ الربيع رداءه
…
كما نشرت ثوبا عليه منمنما
أحلّ فأبدى للعيون بشاشة
…
وكان قذى للعين إذ كان محرما
ورقّ نسيم الجوّ حتّى كأنّما
…
يجيء بأنفاس الأحبّة نعّما
وأحلى منه قول أحمد بن محمد العلويّ:
أو ما ترى الأيّام كيف تبرّجت
…
وربيعها وال عليها قيّم؟
لبست به الأرض الجمال فحسنها
…
متأزّر ببروده متعمّم
انظر إلى وشي الرّياض كأنّه
…
وشي تنشّره الأكفّ ينمنم
والنّور يهوى كالعقود تبدّدت
…
والورد يخجل والأقاحي تبسم
والطّلّ ينظم فوقهنّ لآلئا
…
قد زان منهنّ الفرادى التّوأم
ويكاد يذري الدّمع نرجسها اذا
…
أضحى ويقطر من شقائقها الدّم
ومنها:
أرض تباهيها السماء اذا دجا
…
ليل ولاحت في دجاها الأنجم
فلخضرة الجوّ اخضرار رياضها
…
ولزهره زهر ونور ينجم
وكما يشقّ سنا المجرّة جرّه
…
واد يشقّ الأرض طام مفعم
لم يبق إلا الدّهر إذ باهت به
…
وحيا يجود به ملثّ مرهم «1»
وقول الآخر:
طرق الحياء ببّره المشكور
…
أهلا به من زائر ومزور