الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبالغ بعضهم فسوّى بينه وبين فصل الربيع فقال في ضمن تهنئة لبعض إخوانه:
هنيّت إقبال الخريف
…
وفزت بالوجه الوضيّ
تمّ اعتدالا في الكمال
…
فجاء في خلق سويّ
فحكى الرّبيع بحسنه
…
ونسيم ريّاه الذّكيّ
وينوب ورد الزّعفران
…
له عن الورد الجنيّ
وأبلغ منه قول الآخر يفضله على فصل الربيع الذي هو سيد الفصول ورئيسها:
محاسن للخريف لهنّ فخر
…
على زمن الرّبيع وأيّ فخر
به صار الزّمان أمام برد
…
يراقب نزحه وعقيب حرّ
ومع ذلك فالأطباء تذمّه لاستيلاء المرّة السّوداء فيه، ويقولون: أنّ هواءه رديء متى تشبّث بالجسم لا يمكن تلافيه؛ وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
خذ في التّدثّر في الخريف فإنّه
…
مستوبل ونسيمه خطّاف
يجري مع الأيّام جري نفاقها
…
لصديقها ومن الصّديق يخاف
الرابع- فصل الشتاء
وهو أحد وتسعون يوما وربع يوم ونصف ثمن يوم، ودخوله عند حلول الشمس رأس الجدي؛ وذلك في الثامن عشر من كيهك وإذا بقي من كانون الأول ثمانية أيام؛ وآخره إذا أتت الشمس على آخر درجة من الحوت فيكون له من البروج الجدي والدّلو والحوت؛ وهذه البروج تدلّ على السكون؛ والطالع فيه مع الفجر سعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السّعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدّم والفرغ المؤخّر، والرّشاء. فيه تهبّ رياح الدّبور؛ وهو بارد رطب.
فيه يهيج البلغم، وتضعف قوى الأبدان. له من السنّ الشّيخوخة، ومن القوى البدنيّة القوة الدافعة، وفيه يشتدّ البرد، ويخشن الهواء، ويتساقط ورق الشّجر، وتنجحر «1» الحيّات، وتكثر الأنواء، ويظلم الجوّ، وتصير الأرض كأنها عجوز هرمة
قد دنا منها الموت. وله من الكواكب المشتري وعطارد، ومن الساعات العاشرة والحادية عشرة. ويقال: إذا حلّت الشمس الجدي، مدّ الشّتاء رواقه، وحلّ نطاقه، ودبّت عقارب البرد لاسبة «1» ، ونفع مدّخر الكسب كاسبه. وللبلغاء في وصف حال من أظله ملح تدفع عن المقرور متى استعدّ بها طلّه ووبله.
فمن ذلك قول بعضهم يصف شدّة البرد: برد يغيّر الألوان، وينشّف الأبدان، ويجمّد الريق في الأشداق، والدّمع في الآماق «2» ؛ برد حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره.
ومن كلام الفاضل «3» : في ليلة جمد خمرها، وخمد جمرها، إلى يوم تودّ البصلة لو ازدادت قمصا «4» إلى قمصها، والشمس لو جرّت النار إلى قرصها؛ أخذه بعضهم فقال:
ويومنا أرياحه قرّة
…
تخمش الأبدان من قرصها
يوم تودّ الشمس من برده
…
لو جرّت النار إلى قرصها
ولابن حكينا البغداديّ:
البس إذا قدم الشّتاء برودا
…
وافرش على رغم الحصير لبودا
الرّيق في اللهوات أصبح جامدا
…
والدّمع في الآماق صار برودا
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا
…
عادت إليك من العقيق عقودا
وترى على برد المياه طيورها
…
تختار حرّ النار والسّفّودا
يا صاحب العودين لا تهملهما
…
حرّق لنا عودا وحرّك عودا
ولبعضهم:
شتاء تقلص الأشداق منه
…
وبرد يجعل الشّبّان شيبا
وأرض تزلق الأقدام فيها
…
فما تمشي بها إلا دبيبا
ومن كلام الزمخشري:
أقبلت يا برد ببرد أجود
…
تفعل بالأوجه فعل المبرد
أظل في البيت كمثل المقعد
…
منقبضا تحت الكساء الأسود
لو قيل لي أنت أمير البلد
…
فهات للبيعة كفّا يعقد
ومن كلام أبي عبد الله بن أبي الخصال «1» يصف ليلة باردة من رسالة:
والكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه «2» ، والتوى التواء الجباب «3» ، واستدار استدارة الحباب «4» ، وجلّده الجليد، وضربه الضّريب، وصعّد أنفاسه الصّعيد، فحماه مباح، ولا هرير ولا نباح.
ومن شعر الحماسة في وصف ليلة شديدة البرد:
في ليلة من جمادى ذات أندية
…
لا يبصر الكلب من أندائها الطّنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة
…
حتّى يلفّ على خيشومه الذّنبا
ولأبي القاسم التنوخيّ «5» :
وليلة ترك البرد البلاد بها
…
كالقلب أسعر نارا فهو مثلوج
فإن بسطت يدا لم تنبسط خصرا
…
وإن تقل فبقول فيه تثبيج «1»
فنحن منه ولم نخرس ذوو خرس
…
ونحن فيه ولم نفلج مفاليج
وقال بعضهم يصف يوما باردا كثير الضّباب:
يوم من الزّمهرير مقرور
…
عليه جيب السّحاب مزرور
وشمسه حرّة مخدّرة
…
ليس لها من ضبابه نور
كأنّما الجوّ حشوه إبر
…
والأرض من تحته قوارير
وحكي أنّ أعرابيّا اشتدّ به البرد فأضاءت نار فدنا منها ليصطلي، وهو يقول:
اللهم لا تحرمنيها في الدّنيا ولا في الآخرة؛ أخذه بعضهم فقال وهو في غاية المبالغة:
أيا ربّ إن البرد أصبح كالحا
…
وأنت بحالي عالم لا تعلّم
فإن كنت يوما مدخلي في جهنّم
…
ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم
وقد اعتنى الناس بمدحه فقال بعضهم: لو لم يكن من فضله إلا أنه تغيب فيه الهوامّ وتنجحر الحشرات، ويموت الذّباب، ويهلك البعوض، ويبرد الماء، ويسخن الجوف، ويطيب العناق، ويظهر الفرش، ويكثر الدخن، وتلذّ جمرة البيت لكفى.
وتابعه بعض الشعراء فقال:
تركت مقدّمة الخريف حميده
…
وبدا الشّتاء جديده لا ينكر
مطر يروق الصّحو منه وبعده
…
صحو يكاد من الغضارة يمطر
غيثان والانواء غيث ظاهر
…
لك وجهه والصّحو غيث مضمر
وقال أبو الفتح كشاجم:
أذن الشّتاء بلهوه المستقبل
…
فدنت أوائله بغيث مسبل
متكاثف الأنواء منغدق الحيا
…
هطل النّدى هزج الرّعود بجلجل
جاءت بعزل الجدب فيه فبشّرت
…
بالخصب أنواء السّماك الأعزل
وقد ولع الناس بذكر الاعتداد لها قديما وحديثا.
قيل لأعرابيّ: ما أعددت للبرد؟ فقال: طول الرّعدة، وتقرفص القعدة، وذوب «1» المعدة، أخذه ابن سكّرة «2» ، فقال:
قيل ما أعددت للبر
…
د وقد جاء بشدّه
قلت درّاعة عري
…
تحتها جبّة رعده
واعلم أن ما تقدّم من أزمان الفصول الأربعة هو المصطلح المعروف، والطريق المشهور. وقد ذكر الآبيّ في كتاب الدرّ «3» : أن العرب قسّمت السنة أربعة أجزاء فجعلوا الجزء الأوّل الصّفريّة وسمّوا مطره الوسمي، وأوّله عندهم سقوط عرقوة الدّلو السّفلى، وآخره سقوط الهقعة، وجعلوا الجزء الثاني الشتاء، وأوّله سقوط الهنعة، وآخره سقوط الصّرفة. وجعلوا الجزء الثالث الصيف، وأوّله سقوط العوّاء، وآخره سقوط الشّولة، وجعلوا الجزء الرابع القيظ. وسمّوا مطره الخريف، وأوّله سقوط النّعائم، وآخره سقوط عرقوة الدلو العليا.
وذكر ابن قتيبة في «أدب الكاتب» طريقا آخر فقال:
الربيع يذهب الناس إلى أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ويأتي فيه الورد والكمأة، والنّور، ولا يعرفون الربيع غيره. والعرب تختلف في ذلك فمنهم من
يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وهو الخريف، وبعده فصل الشتاء، ثم فصل الصيف وهو الوقت الذي تسمّيه العامّة الربيع، ثم فصل القيظ وهو الذي تسميه العامة الصّيف، ومنهم من يسمّي الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأوّل، ويسمّي الفصل الذي يلي الشتاء وتأتي فيه الكمأة والنّور الربيع الثاني، وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع.
وفي بعض التعاليق أن من العرب من جعل السنة ستة أزمنة: الأوّل الوسمي وحصّته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة وهي العوّاء، والسّماك والغفر، والزّبانان، وثلثا الإكليل. الثاني الشتاء، وحصته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة وهي ثلث الإكليل، والقلب، والشّولة، والنّعائم، والبلدة، وثلث الذّابح، الثالث الربيع، وحصته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة، وهي ثلثا الذابح وبلع، والسّعود، والأخبية، والفرغ المقدم، الرابع الصيف، وحصته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة، وهي الفرغ المؤخّر، وبطن الحوت، والشّرطان، والبطين، وثلثا الثريّا، الخامس الحميم، وحصته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة وهي ثلث الثريا، والدّبران والهقعة، والهنعة، والذّراع وثلث النثرة. السادس الخريف، وحصّته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة وهي ثلثا النّثرة، والطّرف، والجبهة، والخرتان، والصّرفة.
والأوائل من علماء الطّب يقسمون السنة إلى الفصول الأربعة، إلا أنهم يجعلون الشتاء والصيف أطول زمانا وأزيد مدّة من الربيع والخريف، فيجعلون الشّتاء أربعة أشهر، والصيف أربعة أشهر، والربيع شهرين، والخريف شهرين، إذ كانا متوسطين بين الحرّ والبرد وليس في مدّتهما طول ولا في زمانهما اتّساع.
واعلم أن ما تقدّم من تفضيل بعض الفصول على بعض إنما هو أقاويل الشّعراء وأفانين الأدباء، تفنّنا في البلاغة؛ وإلا فالواضع حكيم جعل هذه الفصول مشتملة على الحرّ تارة وعلى البرد أخرى لمصالح العباد، ورتّبها ترتيبا خاصّا على