الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثاني في تحقيق المعاني؛ ومعرفة صوابها من خطئها، وحسنها من قبحها
.
وقد قسم صاحب الصناعتين «1» المعاني على خمسة أصناف
الصنف الأوّل ما كان من المعاني مستقيما حسنا
، كقولك رأيت زيدا وهو أعلى الأنواع الخمسة وأشرفها قال في «الصناعتين» : والمعنى الصحيح الثابت ينادي على نفسه بالصحة، ولا يحوج إلى التكلّف لصحته حتّى يوجد المعنى فيه خطيبا.
فأما المعنى المستقيم الجزل من النظم، فمن الوعظ قول النّمر بن تولب «2» يذم طول الحياة:
يودّ الفتى طول السّلامة والغنى
…
فكيف ترى طول السلامة يفعل «3»
يكاد «4» الفتى بعد اعتدال وصحّة
…
ينوء إذا رام القيام ويحمل
وقول أبي العتاهية في الوعظ بزوال العز والنعمة بالموت:
وكانت في حياتك لي عظات
…
وأنت اليوم أوعظ منك حيّا!
وفي وصف الأيام قول أبي تمّام:
على أنها الأيّام قد صرن كلّها
…
عجائب حتّى ليس فيها عجائب
ومن المدح قول أمية بن أبي الصّلت:
عطاؤك «5» زين لأمريء إن حبوته
…
بسيب وما كلّ العطاء يزين
وليس بشين لأمريء بذل وجهه
…
إليك كما بعض السّؤال يشين
وقول أبي تمام:
يستعذبون مناياهم كأنّهم
…
لا ييأسون من الدّنيا إذا قتلوا
وقول الآخر:
هم الألى وهبوا للمجد أنفسهم
…
فما يبالون ما نالوا إذا حمدوا
ومن الفخر قول معن بن أوس «1» .
لعمرك ما أهديت «2» كفّي لريبة
…
ولا حملتني نحو فاحشة رجلي!
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
…
ولا دلّني رأيي عليها ولا عقلي!
وأعلم أنّي لم تصبني مصيبة
…
من الدّهر إلا قد أصابت فتى قبلي!
ولست بماش ما حييت لمنكر
…
من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي!
ولا مؤثر «3» نفسي على ذي قرابة
…
وأوثر ضيفي ما أقام، على أهلي!
وقول الآخر:
ولست بنظّار إلى جانب الغنى
…
إذا كانت العلياء في جانب الفقر
وقول الشنفرى «4» :
أطيل مطال «5» الجوع حتّى أميته
…
وأضرب عنه القلب صفحا فيذهل
ولولا اجتناب العار لم يلف مشرب
…
يعاش به إلا لديّ ومأكل
ومن الغزل قول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور «1»
…
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللّبّ حتّى لا حراك به «2»
…
وهنّ أضعف خلق الله أركانا
وقول النظام «3» :
توهّمه طرفي فآلم خدّه
…
فصار مكان الوهم من نظري أثر
وصافحه قلبي فآلم كفّه
…
فمن صفح قلبي في أنامله حفر
ومرّ بفكري خاطرا فجرحته
…
ولم أر خلقا قطّ يجرحه الفكر
ومن التشبيب قول القائل:
ومن عجب أنّي أحنّ إليهم
…
وأسأل عنهم من أرى وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها
…
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وقول الآخر:
إن لم أزر ربعكم سعيا على حدقي
…
فإنّ ودّي منسوب إلى الملق
تبّت يدي إن ثنتني عن زيارتكم
…
بيض الصّفاح ولو سدّت بها طرقي
ومن الحكمة قول المتنبي:
والظّلم من شيم النّفوس فإن تجد
…
ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
وقول الآخر:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى
…
ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه؟
وقول الآخر «1» :
ولست بمستبق أخا لا تلمّه
…
على شعث أيّ الرّجال المهذّب؟
ومن الهجو قول الطّرمّاح «2» في تميم:
تميم بطرق اللّؤم أهدى من القطا
…
ولو سلكت سبل المكارم ضلّت
وقول الآخر «3» :
لو اطّلع الغراب على تميم
…
وما فيها من السّوءات شابا
إلى غير ذلك من معاني الشعر الحسنة البهيجة الرائقة.
ومما ينخرط في هذا السلك من النثر ما يحكى أن أعرابيا وقف على عبد الملك بن مروان برملة اللّوى «4» فقال: رحم الله امرأ لم تمجّ أذناه كلامي، وقدّم معاذه من سوء مقامي، فإن البلاد مجدبة، والحال مسغبة، والحياء زاجر، يمنع من كلامكم، والفقر عاذر، يدعو إلى إخباركم، والدعاء إحدى الصدقتين، فرحم الله امرأ أمر بمير، أو دعا بخير.
ومعاني القاضي الفاضل «5» هي التي ترقص لها القلوب، وتطرب لها الألباب، ويهجم قبولها على النفوس من غير حاجب ولا بوّاب؛ فمن ذلك قوله:
«يا بني أيّوب، لو ملكتم الدهر لا متطيتم لياليه أداهم، وقلّدتم أيامه صوارم، وأفنيتم شموسه وأقماره في الهبات دنانير ودراهم؛ وأيّامكم أعراس وما ثمّ