الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نغمة لذيذة كنغمة الأوتار، وصوتا منكرا كصوت الحمار، وأن لها في الفم حلاوة كحلاوة العسل، ومرارة كمرارة الحنظل. ولا حجة لاستعمال العرب لهذه الألفاظ، فإن استحسان الألفاظ واستقباحها لا يؤخذ بالتقليد من العرب، لأنه ليس للتقليد فيه مجال؛ وإنما له خصائص وهيئات وعلامات إذا وجدت علم حسنه من قبحه والله أعلم.
الأصل الثالث من صناعة إنشاء الكلام، تركيب الكلام، وترتيب الألفاظ والنظر فيه من وجوه
الوجه الأوّل في بيان فضل المعرفة بذلك، ومسيس حاجة الكاتب إلى معرفته، والإشارة إلى خفي سره وتوعّر مسلكه
قال أبو هلال العسكريّ: وأجناس الكلام المنظوم ثلاثة: الرسائل، والخطب، والشعر؛ جميعها يحتاج إلى حسن التأليف، وجودة التركيب؛ وحسن التأليف يزيد المعنى وضوحا وشرحا، ومع سوء التأليف ورداءة الرّصف والتركيب شعبة من التعمية؛ فإذا كان المعنى سيّئا، ورصف الكلام رديئا «1» ، لم يوجد له قبول، ولم تظهر عليه طلاوة. فإذا كان المعنى وسطا ورصف الكلام جيدا، كان أحسن موقعا وأطيب مستمعا، فهو بمنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها كان رائقا في المرأى، وإن لم يكن مرتفعا نبيلا «2» ؛ وإن اختلّ نظمه فضمّت الحبة منه إلى ما لا يليق بها اقتحمته العين وإن كان فائقا ثمينا؛ وحسن الرّصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكّن من أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير والحذف والزيادة إلا حذفا لا يفسد الكلام، ولا يعمّي المعنى، وتضم كل لفظة
منها إلى شكلها وتضاف إلى وفقها «1» ؛ وسوء الرّصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها، وصرفها عن وجوهها، وتغيير صيغتها، ومخالفة الاستعمال في نظمها.
وقد قال العتابيّ «2» : الألفاظ أجساد والمعاني أرواح، وإنما تراها بعيون القلوب، فإذا قدّمت منها مؤخرا وأخرت منها مقدّما أفسدت الصورة وغيرت المعنى، كما أنه لو حوّل رأس إلى موضع يد أو يد إلى موضع رأس أو رجل لتحوّلت الخلقة، وتغيّرت الحلية.
قال في «الصناعتين» : وقد أحسن في هذا التمثيل.
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في «المثل السائر» : وهذا الموضع يضلّ في سلوك طريقه العلماء بصناعة صوغ الكلام من النظم والنثر، فكيف الجهال الذين لم تنفحهم منه رائحة! ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار «3» ، حتّى ينظر إلى أسرار ما يستعمله من الألفاظ فيضعها في مواضعها؟ وذلك أن تفاوت التفاضل لم يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها، إذ التركيب أعسر وأشقّ، ألا ترى أن ألفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها قد استعملتها العرب ومن بعدهم، وهي مع ذلك تفوق جميع كلامهم وتعلو عليه، وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب. وانظر إلى قوله تعالى:
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
«4» وما اشتملت عليه هذه الآية من الحسن والطلاوة والرونق والمائية الّتي لا يقدر البشر على الإتيان بمثلها، ولا يستطيع أفصح الناس وأبلغ العالم مضاهاتها؛ على أن ألفاظها المفردة كثيرة
الاستعمال دائرة على الألسنة، فقوّة التركيب وحسن السبك هو الذي ظهر فيه الإعجاز وأفحمت فيه البلاغة من حيث لاقت اللفظة الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة، وكذلك سائر الألفاظ إلى آخر الآية. ويشهد لذلك أنك لو أخذت لفظة منها من مكانها وأفردتها عن أخواتها لم تكن لابسة من الحسن والرونق ما لبسته في موضعها من الآية، ولكلّ كلمة مع صاحبتها مقام.
قال ابن الأثير: ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلّان على معنى واحد، كلتاهما في الاستعمال على وزن واحد وعدّة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السّبك؛ وهذا مما لا يدركه إلا من دقّ فهمه، وجلّ نظره. وإذا نظرت إلى قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
«1» وقوله تعالى: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
«2» رأيت ذلك عيانا، فإن الجوف والبطن بمعنى واحد، وقد استعمل الجوف في الآية الأولى والبطن في الآية الثانية ولم يستعمل أحدهما مكان الآخر؛ وكذلك قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى
«3» وقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
«4» فالقلب والفؤاد سواء في الدلالة وإن كانا مختلفين في الوزن، ولم يستعمل أحدهما موضع الآخر.
ومما يجري هذا المجرى قول الأعرج «5» من أبيات الحماسة:
نحن بنو الموت إذا الموت نزل
…
لا عار بالموت إذا حمّ الأجل
الموت أحلى عندنا من العسل
وقول أبي الطيب المتنبّي:
إذا شئت حفّت بي على كل سابح
…
رجال كأنّ الموت في فمها شهد
فلفظة الشهد ولفظة العسل كلاهما حسن مستعمل، وقد جاءت لفظة الشهد في بيت أبي الطّيّب أحسن من لفظة العسل في بيت الأعرج، على أن لفظة العسل قد وردت «1» في القرآن دون لفظة الشهد فجاءت أحلى من الشهد في موضعها؛ وكثيرا ما تجد أمثال ذلك في أقوال الشعراء المفلقين وبلغاء الكتّاب ومصاقع الخطباء، وتحتها دقائق ورموز، إذا علمت وقيس عليها كان صاحب الكلام قد انتهى في النظم والنثر إلى الغاية القصوى في وضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها.
قال: وأعجب من ذلك أنك ترى اللفظة الواحدة تروقك في كلام، ثم تراها في كلام آخر فتكرهها؛ وقد جاءت لفظة في آي القرآن الكريم بهجة رائقة، ثم جاءت تلك اللفظة بعينها في كلام آخر فجاءت ركيكة نابية عن الذوق، بعيدة من الاستحسان؛ فمن ذلك لفظة يؤذي فإنها وردت في قوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ
«2» فجاءت في غاية الحسن ونهاية الطلاوة، ووردت في قول أبي الطيب:
تلذّ له المروءة وهي تؤذى
…
ومن يعشق يلذّ له الغرام
فجاءن رثّة مستهجنة، وإن كان البيت من أبيات المعاني الشريفة، وذلك لقوّة تركيبها في الآية وضعف تركيبها في بيت الشعر؛ والسبب في ذلك أن لفظة تؤذي إنما تحسن في الكلام إذا كانت مندرجة مع ما يأتي بعدها، متعلقة به كما في الآية الكريمة حيث قال: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ
«3» وفي بيت المتنبي جاءت منقطعة ليس بعدها شيء تتعلق به حيث قال:
تلذّ له المروءة وهي تؤذى
ثم استأنف كلاما آخر فقال:
ومن يعشق يلذّ له الغرام
وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبويّ مضافة إلى كاف خطاب، فأخذت من المحاسن بزمامها، وأحاطت من الطّلاوة بأطرافها؛ وذلك أنه لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل فرقاه فقال:«بسم الله أرقيك من كلّ داء يؤذيك» فصارت إلى الحسن بزيادة حرف واحد، وهذا من السّرّ الخفي الذي يدقّ فهمه.
وعلى نهج لفظة يؤذي يرد لفظة لي، فإنها لا تحسن إلا أن تكون متعلقة بما بعدها، ولذلك لحقها هاء السّكت في قوله تعالى: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ
«1» لما لم يكن بعدها ما تتعلق به، بخلاف قوله: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ
«2» فإنه لم تلحقها هاء السكت اكتفاء بما هي متعلقة به.
ومما يجري مثل هذا المجرى لفظة القمّل، فإنها قد وردت في قوله تعالى:
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ
«3» فجاءت في غاية الحسن، ووردت في قول الفرزدق:
من عزّه اجتحرت كليب عنده
…
زربا كأنّهم لديه القمّل «4»
فجاءت منحطة نازلة، وذلك لأنها قد جاءت في الآية مندرجة في ضمن كلام لم ينقطع الكلام عندها، وجاءت في البيت قافية انقطع الكلام عندها.
هذا ملخص ما ذكره ابن الأثير، وقال: إنه لم يسبق إليه، وجعل الحاكم