الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رقّاما «1» . قال: ولا أريد بهذا الطريق أن يكون الكاتب مرتبطا في كتابته بما يستخرجه من القرآن الكريم والأخبار النبوية والأشعار، بحيث أنه لا ينشيء كتابا إلا في ذلك، بل أريد أنه إذا حفظ القرآن الكريم، وأكثر من حفظ الأخبار النبوية والأشعار، ثم نقّب عن ذلك تنقيب مطّلع على معانيه، مفتش على دفائنه، وقلبه ظهرا لبطن، عرف حينئذ من أين تؤكل الكتف فيما ينشئه من ذات نفسه، واستعان بالمحفوظ على الغريزة الطبيعية. على أنه لا بدّ للكاتب المرتقي إلى درجة الاجتهاد في الكتابة مع حفظ القرآن الكريم، والاستكثار من حفظ الأخبار النبوية، والأشعار المختارة، من العلم بأدوات الكتابة وآلات البيان: من علم اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، ليتمكن من التصرف في اقتباس المعاني واستخراجها فيرقى إلى درجة الاجتهاد في الكتابة؛ كما أن المجتهد من الفقهاء إذا عرف أدوات الاجتهاد: من آيات الأحكام، وأحاديثها، ونعتها، وعرف النحو والناسخ والمنسوخ من الكتاب والسّنّة، والحساب والفرائض وإجماع الصحابة، وغير ذلك من آلات الاجتهاد وأدواته، استخرج بفكره حينئذ ما يؤديه إليه اجتهاده؛ فالمجتهد في الكتابة يستخرج المعاني من مظانّها من القرآن الكريم، والأخبار النبوية، والأشعار، والأمثال، وغير ذلك بواسطة آلة الاجتهاد، كما أن المجتهد في الفقهيات يستخرج الأحكام من نصوص الكتاب والسنة بواسطة آلة الاجتهاد. فإذا أراد الكاتب المتصف بصفة الاجتهاد في الكتابة إنشاء خطبة أو رسالة أو غيرهما مما يتعلق بفنّ الانشاء بياض بالأصل.
الأصل السادس وجود الطبع السليم، وخلو الفكر عن المشوش
أما وجود الطبع فقال في «موادّ البيان» : أوّل معاون هذه الصناعة الجليلة
القريحة الفاضلة، والغريزة الكاملة، التي هي مبدأ الكمال، ومنشأ التمام، والأساس الذي يبنى عليه، والركن الذي يستند إليه، فإن المرء قد يجتهد في تحصيل الآداب، ويتوفّر على اقتناء العلوم واكتسابها، وهو مع ذلك غير مطبوع على تأليف الكلام فلا يفيده ما اكتسبه، بخلاف المطبوع على ذلك، فإنه وإن قصّر في اقتباس العلوم واكتساب الموادّ فقد يلحق بأوساط أهل الصناعة؛ وذلك أن الطبع يخص الله تعالى به المطبوع دون المتطبّع، والمناسب بغزيرته للصناعة دون المتصنّع، ولا سبيل إلى اكتساب سهولة الطبع ولا كزازته «1» ، بل هو موهبة تخصّ ولا تعمّ، وتوجد في الواحد وتفقد في الآخر.
قال ابن أبي الأصبع في «تحرير التحبير» «2» : ومن الناس من يكون في البديهة أبدع منه في الرّوية، ومن هو مجيد في الرّوية وليست له بديهة، وقلّما يتساويان. ومنهم من إذا خاطب أبدع، وإذا كاتب قصّر، ومن هو بضدّ ذلك، ومن قوي نثره ضعف نظمه، ومن قوي نظمه ضعف نثره، وقلما يتساويان. وقد يبرّز الشاعر في معنى من مقاصد الشعر دون غيره من المقاصد، ولهذا قيل: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، وعنترة إذا كلب «3» ، والأعشى إذا طرب. قال في «المثل السائر» : بل ربما نفذ في بعض أنواع الشعر دون بعض، فيرى مجيدا في المدح دون الهجو أو بالعكس، أو ماهرا في المقامات ونحوها دون الرسائل، أو في بعض الرسائل دون بعض. قال ابن أبي الأصبع: ولربما واتاه العمل في وقت دون وقت؛ ولذلك قال الفرزدق: إني ليمرّ عليّ الوقت ولقلع ضرس من أضراسي أيسر عليّ من قول الشعر، ولذلك عزّ تأليف الكلام ونظمه على كثير من العلماء باللغة، والمهرة في معرفة حقائق الألفاظ، من حيث نبوّ طباعهم عن تركيب بسائط الكلام الذي قامت صور معانيه في نفوسهم،
وصعب الأمر عليهم في تأليفه ونظمه، فقد حكي أن الخليل بن أحمد مع تقدّمه في اللغة، ومهارته في العربية، واختراعه علم العروض، الذي هو ميزان شعر العرب، لم يكن يتهيأ له تأليف الألفاظ السهلة لديه الحاصلة المعاني في نفسه على صورة النظم إلا بصعوبة ومشقّة، وكان إذا سئل عن سبب إعراضه عن نظم الشعر يقول يأباني جيّده وآبى رديئه، مشيرا بذلك إلى أن طبعه غير مساعد له على التأليف المرضيّ الذي تحسن نسبته إلى مثله. وقيل للمفضّل الضّبيّ «1» : ألا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ فقال: علمي به يمنعني من قوله، وأنشد:
أبى الشّعر إلا أن يفيء رديئه
…
عليّ ويأبى منه ما كان محكما
فيا ليتني إن لم أجد حوك وشيه
…
ولم أك من فرسانه كنت مفحما
وأنشد أبو عبيدة خلفا الأحمر «2» شعرا له فقال اخبأ هذا كما تخبأ السّنّورة حاجتها، مع ما كان عليه أبو عبيدة من العلم باللغة وشعر العرب وأمثالها وأيام حروبها، وما يجري مجرى ذلك من موادّ تأليف الكلام ونظمه. ويحكى عن أبي العباس المبرّد «3» أنه قال: لا أحتاج إلى وصف نفسي: لأن الناس يعلمون أنه ليس أحد بين الخافقين تختلج في نفسه مسألة مشكلة إلا لقيني بها وأعدّني لها، فأنا عالم ومعلّم، وحافظ ودارس، ولا يخفى عليّ مشتبه من الشعر، والنحو، والكلام المنثور، والخطب، والرسائل، ولربما احتجت الى اعتذار من فلتة، أو التماس حاجة، فأجعل المعنى الذي أقصد نصب عيني ثم لا أجد سبيلا إلى التعبير عنه بيد