الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأنف؛ وصفه بكونه مسرّجا إما أنه كالسيف السّريجيّ في الدّقّة والاستواء، والسّريجيّ نسبة إلى قين يسمّى سريجا تنسب إليه السّيوف؛ وإما أنه كالسّراج في البريق واللّمعان، أو من قولهم سرّج الله وجهه إذا بهّجه وحسّنه. فهذا ومثله مما لا يقف على معناه إلا من عرف التصريف وأتقنه.
إذا تقرر ذلك فاعلم أن اللفظ يختلف في الغرابة وعدمها باختلاف النّسب والإضافات؛ فقد يكون اللفظ مألوفا متداول الاستعمال عند كل قوم في كل زمن، وقد يكون غريبا متوحّشا في زمن دون زمن، وقد يكون غريبا متوحشا عند قوم، مستعملا مألوفا عند آخرين.
وهو أربعة أصناف:
الصنف الأوّل المألوف المتداول الاستعمال عند كل قوم في كل زمن
وهو ما تداول استعماله الأوّل والآخر من الزمان القديم وإلى زماننا: كالسماء والأرض، والليل والنهار، والحرّ والبرد، وما أشبه ذلك؛ وهو أحسن الألفاظ وأعذبها، وأعلاها درجة، وأغلاها قيمة؛ إذ أحسن اللفظ ما كان مألوفا متداولا كما تقدّم؛ وهذا لا يقع عليه اسم الوحشيّ بحال.
قال في «المثل السائر» : وأنت إذا نظرت إلى كتاب الله العزيز الذي هو أفصح الكلام وجدته سهلا سلسا، وما تضمنه من الكلمات الغريبة يسير جدّا.
هذا وقد أنزل في زمن العرب العرباء، وألفاظه كلّها من أسهل الألفاظ وأقربها استعمالا وكفى بالقرآن الكريم قدوة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أنزل في التّوراة ولا في الإنجيل مثل أمّ القرآن وهي السّبع المثاني» يريد فاتحة الكتاب. وإذا نظرت إلى ما اشتملت عليه من الألفاظ وجدتها سهلة قريبة يفهمها كل أحد حتى صبيان المكاتب وعوامّ السّوقة وإن لم يفهموا ما تحتها من أسرار الفصاحة والبلاغة، فإن أحسن الكلام ما عرف الخاصة فضله، وفهم العامّة معناه؛ وهكذا فلتكن الألفاظ المستعملة في سهولة فهمها وقرب متناولها؛ والمقتدي بألفاظ
القرآن يكتفي بها عن غيرها من جميع الألفاظ المنثورة والمنظومة؛ وقد كانت العرب الأول في الزمن القديم تتحاشى اللفظ الغريب في نظمها ونثرها، وتميل إلى السهل وتستعذبه؛ ويكفي من ذلك كلام قبيصة بن نعيم لما قدم على امريء القيس في أشياخ بني أسد يسألونه العفو عن دم أبيه، فقال له:«إنك في المحلّ والقدر من المعرفة بتصرّف الدّهر وما تحدثه أيّامه، وتنتقل به أحواله، بحيث لا تحتاج إلا تذكير من واعظ، ولا تبصير من مجرّب؛ ولك من سودد منصبك، وشرف أعراقك، وكرم أصلك في العرب محتد يحتمل ما حمّل عليه من إقالة العثرة ورجوع عن الهفوة؛ ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي، وبصيرة الفهم، وكرم الصّفح، ما يطوّل رغباتها، ويستغرق طلباتها، وقد كان الذي كان من الخطب الجليل، الذي عمّت رزيّته نزارا واليمن، ولم تخصص بذلك كندة دوننا للشرف البارع الذي كان لحجر؛ ولو كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا بها على مثله، ولكنه مضى به سبيل لا يرجع أخراه على أولاه، ولا يلحق أقصاه أدناه؛ فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا، وأعلاها في بناء المكرمات صوتا، فقدناه إليك بنسعة «1» تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته «2» فنقول: رجل امتحن بهالك عزيز فلم يستلّ سخيمته «3» إلا تمكينه من الانتقام؛ أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها، فهي ألوف تجاوز الحسبة، فكان ذلك فداء رجعت به القضب «4» إلى أجفانها، لم يرددها تسليط الإحن على البرآء؛ وإما أن وادعتنا إلى أن تضع الحوامل فتسدل الأزر وتعقد الخمر فوق الرايات» .
فبكى امرؤ القيس ساعة، ثم رفع رأسه فقال:
«لقد علمت العرب أنه لا كفء لحجر في دم، وأني لن أعتاض به جملا ولا ناقة، فأكتسب به سبّة الأبد، وفتّ العضد، وأما النّظرة فقد أوجبتها الأجنّة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببا، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك، تحمل في القلوب حنقا، وفوق الأسنّة علقا:
إذا جالت الحرب في مأزق
…
تصافح فيه المنايا النّفوسا
أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا: بل ننصرف بأسوإ الاختيار وأبلى الاجترار، بمكروه وأذيّة، وحرب وبليّة.
ثم نهضوا عنه وقبيصة يتمثل:
لعلّك أن تستوخم الورد إن غدت
…
كتائبنا في مأزق الحرب تمطر
فقال امرؤ القيس: لا والله! ولكن أستعذبه، فرويدا ينفرج لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير، ولقد كان ذكر غير هذا بي أولى إذ كنت نازلا بربعي، ولكنك قلت فأوجبت.
فقال قبيصة: ما يتوقّع فوق قدر المعاتبة والإعتاب، فقال إمرؤ القيس: هو ذاك «1» .
قال في «المثل السائر» : فلينظر إلى هذا الكلام من الرجلين: قبيصة وامرىء القيس، حتّى يدع المتعمّقون تعمّقهم في استعمال الوحشي من الألفاظ؛ فإن هذا الكلام قد كان في الزمن القديم قبل الإسلام بما شاء الله، وكذلك هو كلام كل فصيح من العرب مشهور، وما عداه فليس بشيء. قال: وهذا المشار إليه هاهنا هو من جزل كلامهم، وهو على ما تراه من السّلاسة والعذوبة؛ وإذا تصفّحت أشعارهم أيضا وجدت الوحشي من الألفاظ قليلا بالنسبة إلى المسلسل في الفم
والسمع؛ وعلى هذا المنهج في الجزالة والسّهولة يجري من النظم قول امرىء القيس:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة
…
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل
…
وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي
فانظر إلى هذين البيتين ليس فيهما لفظة غريبة، ولا كره مع ما فيهما من الجزالة؛ وكذلك أبيات السّموأل المشهورة وهي:
إذا المرء لم يدنس من اللّؤم عرضه
…
فكلّ رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها
…
فليس إلى حسن الثّناء سبيل
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا
…
فقلت لها إنّ الكرام قليل
وما ضرّنا أنا قليل وجارنا
…
عزيز وجار الأكثرين ذليل
يقرّب حبّ الموت آجالا لنا
…
وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منّا سيّد في فراشه
…
ولا طلّ منّا حيث كان قتيل
وأسيافنا في كلّ غرب ومشرق
…
بها من قراع الدّارعين فلول
معوّدة ألّا تسلّ نصالها
…
فتغمد حتّى يستباح قبيل
فإذا نظرت ما تضمنته هذه الأبيات من الجزالة، خلتها زبرا من الحديد مع ما هي عليه من السّهولة والعذوبة، وأنها غير فظّة ولا غليظة. وقد ورد للعرب في جانب الرّقة من الأشعار ما يكاد تذوب لرقّته القلوب، كقول عروة بن أذينة:«1» .
إن التي زعمت فؤادك ملّها
…
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
بيضاء باكرها النّعيم فصاغها
…
بلباقة فأدقّها وأجلّها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي
…
ما كان أكثرها لنا وأقلها!
وإذا وجدت لها وساوس سلوة
…
شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها
وقول يزيد بن الطّثريّة «1» في محبوبته من بني جرم:
بنفسي من لو مرّ برد بنانه
…
على كبدي كانت شفاء أنامله
وإذا كان هذا قول ساكن الفلاة، لا يرى إلا شيحة أو قيصومة «2» ، ولا يأكل إلا ضبّا أو يربوعا، فما بال قوم سكنوا الحضر، ووجدوا رقّة العيش، يتعاطون وحشيّ الألفاظ وشظف العبارات! ولا يخلد إلى ذلك إلا جاهل بأسرار الفصاحة، أو عاجز عن سلوك طريقها، فإن كلّ أحد ممن حصل على نبذة من علم الأدب يمكنه أن يأتي بالوحشيّ من الكلام، إما بأن يلتقطه من كتب اللغة، أو يتلقفه من أربابها. وأما الفصيح المتّصف بصفة الملاحة، فإنه لا يقدر عليه، ولو قدر عليه لما علم أين يضع يده في تأليفه وسبكه.
قال: وإن مارى في ذلك ممار فلينظر إلى أشعار علماء الأدب ممن كان يشار إليه حتّى يعلم صحة ذلك، فإن ابن دريد «3» قد قيل إنه أشعر علماء الأدب، وإذا نظرت إلى شعره وجدته بالنسبة إلى شعر الشعراء المجيدين منحطّا، مع أن أولئك الشعراء لم يعرفوا من علم الأدب عشر معشار ما علمه؛ وأين شعره من شعر العباس ابن الأحنف «4» ! وهو من أوائل الشعراء المحدثين، وشعره كمرّ نسيم على عذبات أغصان، أو كلؤلؤات طلّ على طرر ريحان؛ وليس فيه لفظة واحدة غريبة يحتاج إلى استخراجها من كتاب من كتب اللغة، كقوله:
وإنّي ليرضيني قليل نوالكم
…
وإن كنت لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم
…
من الودّ إلا عدتمو بجميل
وقوله في محبوبته فوز:
يا فوز يا منية عبّاس
…
قلبي يفدّي قلبك القاسي
أسأت إذ أحسنت ظنّي بكم
…
والحزم سوء الظنّ بالناس
يقلقني شوقي فآتيكم
…
والقلب مملوء من الياس
وهل أعذب من هذه الأبيات، وأعلق بالخاطر، وأسرى في السمع؟ ولمثلها تسهر راقدات الأجفان، وعن مثلها تتأخر السوابق عند الرّهان، ومن الذي يستطيع أن يسلك هذه الطريق التي هي سهلة وعرة، قريبة بعيدة؟. وقد كان أبو العتاهية أيضا في غرّة الدولة العباسية، وشعر العرب إذ ذاك موجود كثيرا، وإذا تأملت شعره وجدته كالماء الجاري، رقّة ألفاظ، ولطافة سبك، وليس بركيك ولا واه، وانظر إلى قصيدته التي يمدح بها المهديّ ويشبب بجاريته عتب وهي:
ألا ما لسيّدتي مالها
…
تدلّ فأحمل إدلالها
ألا إن جارية للإمام
…
قد أسكن الحسن سربالها
لقد أتعب الله قلبي بها
…
وأتعب في اللّوم عذّالها
كأنّ بعينيّ في حيث ما
…
سلكت من الأرض تمثالها
فلما وصل إلى المديح قال من جملته:
أتته الخلافة منقادة
…
إليه تجرّر أذيالها
فلم تك تصلح إلّا له
…
ولم يك يصلح إلّا لها
ولو رامها أحد غيره
…
لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه نيات القلوب
…
لما قبل الله أعمالها
فهذه الأبيات من أرقّ الشعر غزلا ومديحا، وقد أذعن لمديحها الشعراء من أهل العصر، وهي على ما ترى من السّلاسة واللّطافة على أقصى الغايات، حتّى قال بشّار عند سماع المهديّ لها من أبي العتاهية:«انظروا إلى أمير المؤمنين هل طار عن أعواده؟» يريد هل زال عن سريره طربا بهذا المديح. وعلى هذا الأسلوب كان أبو نواس في السهولة والسّلاسة والرّقّة، ولذلك قدّم على شعراء عصره مع ما فيه من فحول الشعراء ومفلقيهم كمسلم بن الوليد وغيره، وذلك لرقة شعره
وسهولته، كقوله في محبوبته جنان:
ألم تر أنّني أفنيت عمري
…
بمطلبها ومطلبها عسير
فلّما لم أجد سببا إليها
…
يقرّبني وأعيتني الأمور
حججت وقلت قد حجّت جنان
…
فيجمعني وإيّاها المسير
فانظر إلى هذه الأبيات ليس فيها لفظة منغلقة، وكذلك سائر شعره؛ وكان هو وأبو العتاهية كأنما ينفقان من كيس واحد. ومن لطيف ما يحكى في توافق طريقتهما واتحاد مأخذهما أن أبا نواس جلس يوما إلى بعض التّجّار ببغداد هو وجماعة من الشعراء، فاستسقى أبو نواس ماء فلما شرب قال:
عذب الماء وطابا
ثم قال: أجيزوه! فأخذ أولئك الشعراء يتردّدون في إجازته، وإذا هم بأبى العتاهية مجتازا فقال: ما شأنكم مجتمعين؟ فقالوا كيت وكيت وقد قال أبو نواس:
عذب الماء وطابا
فقال أبو العتاهية مجيزا له:
حبّذا الماء شرابا
فعجبوا لقوله على الفور من غير تلبث، فهذا هو الكلام السهل الممتنع تراه يطمعك أن تأتي مثله، فإذا حاولت مماثلته راغ عنك كما يروغ الثعلب، وهكذا ينبغي أن يكون من خاض في كتابة أو شعر، فإن خير الكلام ما دخل الأذن بغير إذن.
ومن النثر قول سعيد بن حميد: «1» وأنا من لا يحاجّك عن نفسه، ولا يغالطك عن جرمه، ولا يستدعي برّك إلا من طريقته، ولا يستعطفك إلا بالإقرار
بالذّنب، ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالجرم، نبت بي عنك غرّة الحداثة، وردّتني إليك الحنكة، وباعدتني منك الثقة بالأيّام، وقادتني إليك الضّرورة، فإن رأيت أن تستقبل الصنيعة بقبول العذر، وتجدّد النعمة باطّراح الحقد، فإنّ قديم الحرمة وحديث التوبة يمحقان ما بينهما من الإساءة؛ وإن أيام القدرة وإن طالت قصيرة، والمتعة بها وإن كثرت قليلة، فعلت إن شاء الله تعالى.
فانظر إلى قوة هذا الكلام في سهولته، وقرب مأخذه مع بعد تناوله والإتيان بمشاكله. وأجزل منه مع السهولة قول الشّعبيّ «1» للحجّاج، وأراد قتله لخروجه عليه مع ابن الأشعث «2» : أجدب بنا الجناب، وأحزن بنا المنزل، فاستحلسنا «3» الحذر، واكتحلنا السهر، وأصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء» فعفا عنه «4» .
قال صاحب «الصناعتين» : وقد غلب الجهل على قوم فصاروا يستجيدون الكلام إذا لم يقفوا على معناه إلا بكدّ، ويستفصحونه إذا وجدوا ألفاظه كزّة «5» غليظة، وجاسية «6» مريبة، ويستحقرون الكلام إذا رأوه سلسا عذبا، وسهلا حلوا؛
ولم يعلموا أن السهل أمنع جانبا، وأعزّ مطلبا، وهو أحسن موقعا، وأعذب مستمعا؛ ولهذا قيل:«أجود الكلام السّهل الممتنع» وكان المفضّل يختار من الشعر ما يقلّ تداول الرواة له، ويكثر الغريب فيه. قال العسكري: وهذا خطأ في الاختيار، لأن الغريب لم يكثر في كلام إلا أفسده، وفيه دلالة على الاستكراه والتكلف.
ووصف الفضل بن سهل «1» عمرو بن مسعدة «2» فقال: هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أن كل أحد يظن أنه يكتب مثل كتبه، فإذا رامها، تعذرت عليه.
وقال «3» العباس بن ميمون: قلت للسيد «4» : ألا تستعمل الغريب في شعرك؟
فقال: ذلك عيّ في زماني، وتكلّف مني لو قلته، وقد رزقت طبعا واتساعا في الكلام، فأنا أقول ما يعرفه الصغير والكبير، ولا يحتاج إلى تفسير، ثم أنشدني:
أيا ربّ إنّي لم أرد بالذي به
…
مدحت عليّا غير وجهك فارحم
قال في «الصناعتين» : فهذا كلام عاقل يضع الكلام موضعه، ويستعمله في إبّانه.
ومن كلام بعض الأوائل: تلخيص المعاني رفق، والتشادق في غير أهل نقص، والنظر في وجوه الناس عيّ، ومس اللّحية هلك، والاستعانة بالغريب عجز، والخروج عما بني عليه الكلام إسهاب؛ فأجود الكلام ما كان جزلا سهلا، لا ينغلق معناه، ولا يستبهم مغزاه، ولا يكون مكدودا مستكرها، ومتوعرا متقعّرا، ويكون بريئا من الغثاثة، عاريا من الرّثاثة؛ فالكلام إذا كان لفظه غثّا، ومعرضه