الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأوّل من نبه على ذلك الأستاذ ابن العميد «1» رحمه الله.
ومما يحكى في ذلك: أن الصاحب بن عبّاد أنشد هذا البيت بحضرة ابن العميد، فقال له ابن العميد: هل تعرف في هذا البيت شيئا من الهجنة؟ فقال:
نعم، مقابلة المدح باللوم، وإنما يقابل المدح بالذم والهجاء، فقال له ابن العميد:
غير هذا أريد، قال: لا أرى غير ذلك. فقال ابن العميد: هذا التكرير في أمدحه، أمدحه مع الجمع بين الحاء والهاء وهما من حروف الحلق خارج عن حدّ الاعتدال، نافر كلّ التنافر، فاستحسن الصاحب بن عبّاد ذلك.
قال الشيخ سعد الدين التفتازانيّ في شرح تلخيص المفتاح: ولا يجوز أن يراد أن الثقل في لفظة أمدحه دون تكرار، فإنّ مثل ذلك واقع في التنزيل نحو قوله تعالى: فَسَبِّحْهُ*
والقول باشتمال القرآن على كلام غير فصيح مما لا يجتريء عليه المؤمن.
الضرب الثاني- ما كان شديد الثقل بحيث يضطرب لسان المتكلم عند إرادة النطق به
، كقوله:
وقبر حرب بمكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر
قال في عجائب المخلوقات: إن من الجن نوعا يقال له الهاتف، فصاح واحد منهم على حرب بن أميّة «2» فمات، فقال ذلك الجنّي هذا البيت. قال المسعوديّ في «مروج الذهب» : والدليل على أنه من شعر الجن أمران: أحدهما الرواية، والثاني أنه لا يقوله أحد ثلاث مرات متواليات إلا تعتع فيه.
قال ضياء الدين بن الأثير: والسبب في ثقل البيت تكرير حرفي الباء والراء
فيه، فهذه الباءات والراءات فيه كأنها سلسلة، ولا خفاء بما في ذلك من الثقل.
قال: وكذلك يجري الحكم في كل ما تكرر فيه حرف أو حرفان؛ إلا أنه لم يطلق على ذلك اسم التنافر، وجعل التنافر قسما مستقلا برأسه كما سيأتي، وعدّ هذا من أنواع المعاظلة اللفظية؛ ثم ذكر من أمثلته قول الحريري «1» في مقاماته:
وازورّ من كان له زائرا
…
وعاف عافي العرف عرفانه
وقول كشاجم:
والزّهر والقطر في رباها
…
ما بين نظم وبين نثر
حدائق، كفّ كلّ ريح
…
حلّ بها خيط كلّ قطر
وقول الآخر:
مللت مطال مولود مفدّى
…
مليح مانع منّي مرادي
وقول المتنبي:
كيف ترثي التي ترى كلّ جفن
…
زاءها غير جفنها غير راقي
وعاب بيت الحريريّ لتكرر العين فيه في قوله:
وعاف عافي العرف عرفانه
وعاب البيت الثاني من بيت كشاجم لتكرر الكاف فيه في كفّ «وكلّ» الأولى و «كلّ» الثانية، وقال: هذا البيت يحتاج الناطق به إلى بركار يضعه في شدقه حتّى يديره له؛ وعاب البيت الذي يليه لتكرر الميم فيه في أوائل الكلمات، وقال: هذه الميمات كأنها عقد، متصلة بعضها ببعض، وعاب بيت المتنبي لتكرر الجيم والراء في أكثر كلماته، وقال: هذا وأمثاله إنما يعرض لقائله في نوبة الصّرع التي تنوبه في بعض الأيام. قال: وكان بعض أهل الأدب من أهل عصرنا يستعمل هذا
القسم من المعاظلة كثيرا في كلامه نثرا ونظما، وذلك لعدم معرفته لسلوك الطريق، كقوله في وصف رجل سخيّ: أنت المريح كبد الريح، والمليح إن تجهّم المليح بالتكليح، عند سائل يلوح، بل تفوق إذ تروق مرأى يوح «1» ، يا مغبوق «2» كأس الحمد، يا مصبوح ضاق عن نداك اللّوح «3» ، وببابك المفتوح يستريح ويريح ذو التّبريح، ويرفّه الطليح «4» . فأنظر إلى حرفي الراء والحاء كيف لزمهما في كل لفظة من هذه الألفاظ فجاء على ما تراه من الثقل والغثاثة.
ثم قال: واعلم أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد عدلوا عن تكرير الحروف في كثير من كلامهم، وذاك أنه إذا تكرر الحرف عندهم أدغموه استحسانا، فقالوا في جعل لك: جعلّك، وفي تضربونني تضربونّي، وكذلك قالوا: استعدّ فلان للأمر إذا تأهب له، والأصل فيه استعدد، واستتبّ الأمر إذا تهيأ والأصل فيه استتبب، وأشباه هذا كثير في كلامهم حتّى إنهم لشدّة كراهتهم لتكرير الحروف أبدلوا الحرفين «5» المكررين حرفا آخر غيره، فقالوا: أمليت الكتاب، والأصل فيه أمللت، فأبدلوا اللام ياء طلبا للخفة وفرارا من الثقل، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في اللفظة الواحدة فما ظنك بالألفاظ الكثيرة التي يتبع بعضها بعضا.
قلت: ليس تكرار الحروف مما يوجب التنافر مطلقا كما يقتضيه كلامه بل بحسب التركيب، فقد تتكرر الحروف وتترادف في الكلمات المتتابعة مع القطع بفصاحتها وخفّتها على اللسان وسهولة النطق بها، ألا ترى إلى قوله تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ
«6» كيف اجتمع فيه ستّ عشرة ميما في آية واحدة، قد