الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال في «المثل السائر» : وما أعلم كيف يذهب هذا وأمثاله على هؤلاء الفحول من الشعراء! هذا ما أورده ابن الأثير من هذا النوع، ويشبه أن يكون منه لفظ الحقلّد في قول زهير:
تقيّ نقيّ لم يكثّر غنيمة
…
بنهكة ذي قربى ولا بحقلّد
والحقلّد: السيء الخلق «1» .
قال في «الصناعتين» : وقد أخذ الرّواة على زهير في لفظة الحقلّد فاستبشعوها، وقالوا: ليس في لفظ زهير أنكر منها، وكذلك لفظ الجرشّى في قول أبي الطّيّب في مدح سيف الدولة بن حمدان واسمه عليّ:
مبارك الاسم أغرّ اللّقب
…
كريم الجرشّى شريف النّسب
فلفظ الجرشّى مما يكرهه السمع، وينبوعنه اللسان، والجرشّى بمعنى النّفس، فجعل اسمه مباركا، ولقبه أغرّ، ونفسه كريمة، ونسبه شريفا، وذلك أنه كان يسمّى عليّا وهو اسم مبارك لموافقة أسم امير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه، ويلقب سيف الدولة وهو لقب أعرابي مشهور، وأغرّ أخذا من غرّة الفرس لأنها أشهر ما فيها، ووصفه بكرم النفس إما باعتبار الحسب والعراقة، وإما باعتبار بذل المال وكثرة العطاء، وأشار إلى شرف نسبه باعتبار عراقته في بيت الملك وعراقة حسبه.
الضرب الثاني ما يعاب استعماله في النثر دون النظم
وهذا الضرب مما ذكر صاحب المثل السائر أنه استخرجه بفكره، ولم يجد فيه قولا لغيره. قال: وهذا ينكره من يسمعه حتّى ينتهي إلى ما أوردته من الأمثلة،
ولربما أنكره بعد ذلك إما عنادا وإما جهلا لعدم الذوق السليم عنده، ثم ذكر منه امثلة، منها لفظ شرنبثة «1» من قول الفرزدق:
ولولا حياء زدت رأسك شجّة
…
إذا سبرت ظلّت جوانبها تغلى
شرنبثة شمطاء من يرما بها
…
يشبه ولو بين الخماسيّ والطّفل
قال: فلفظة شرنبثة من الألفاظ الغريبة التي يسوغ استعمالها في الشعر، وهي ها هنا غير مستكرهة، إلا أنها لو وردت في كلام منثور من كتاب أو خطبة، لعيبت على مستعملها.
ومنها لفظة مشمخرّ «2» الواردة في أبيات بشر في وصفه لقاءه الأسد حيث قال:
وأطلقت المهنّد عن «3» يميني
…
فقدّ له من الأضلاع عشرا
فخرّ مضرّجا بدم كأنّي
…
هدمت به بناء مشمخرّا
وكذلك في قول البحتريّ في قصيدته التي يصف فيها إيوان كسرى:
مشمخرّ تعلو له شرفات
…
رفعت في رؤوس رضوى وقدس
فإن لفظة مشمخرّ لا يحسن استعمالها في الخطب والمكاتبات، ولا بأس بها في الشعر؛ وقد وردت في خطب الشيخ الخطيب ابن نباتة «4» كقوله في خطبة يذكر فيها أهوال يوم القيامة: اقمطرّ «5» وبالها، واشمخرّ نكالها، فما طابت ولا ساغت.
ومنها لفظة الكنهور «6» من أوصاف السحاب كقول أبي الطّيّب:
يا
ليت باكية شجاني دمعها
…
نظرت إليك كما نظرت فتعذرا
وترى الفضيلة لا تردّ فضيلة
…
الشّمس تشرق والسّحاب كنهورا
فلفظة الكنهور لا تعاب نظما، وتعاب نثرا.
ومنها لفظة العرمس، وهو اسم الناقة الشديدة؛ فإن هذه اللفظة يسوغ استعمالها في الشعر ولا يعاب مستعملها كقول المتنبي:
ومهمه جبته على قدمي
…
تعجز عنه العرامس الذّلل
فإنه جمع هذه اللفظة ولا بأس بها، ولو استعملت في الكلام المنثور من الخطب لما طابت ولا ساغت؛ وقد جاءت موحّدة في شعر أبي تمام في قوله:
هي العرمس الوجناء وابن ملمّة
…
وجاش على ما يحدث الدهر خافض
ومنها لفظة الشّدنيّة في قول أبي تمام أيضا.
يا موضع الشّدنيّة الوجناء
وهي ضرب من النّوق؛ فإن الشدنيّة لا تعاب شعرا وتعاب لو وردت في كتابة أو خطبة. هذا ما أورده في «المثل السائر» لهذا الضرب من الأمثلة.
ثم قال: وهكذا يجري الحكم في أمثال هذه الألفاظ؛ وعلى هذا فاعلم أن كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنثور يسوغ استعماله في الكلام المنظوم، وليس كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنظوم يسوغ استعماله في الكلام المنثور. قال: وذلك شيء استنبطته واطلعت عليه لكثرة ممارستي هذا الفن، ولأنّ الذوق الذي عندي دلّني عليه، فمن شاء أن يقلّدني فيه، وإلا فليدمن النظر حتّى يطّلع على ما اطلعت عليه، والأذهان في مثل هذا المقام تتفاوت. على أن الشيخ سعد الدين التفتازاني «1» رحمه الله قد تابعه على ذلك في شرح التلخيص «2» ، فلا