الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الجديدة
قيّض الله لهذا الكتاب من الانتشار ومن إقبال الناس عليه، ما لم يقيضه لأيّ من الكتب الأخرى التي وفقني الله لتأليفها وإخراجها.
ومرد ذلك، في يقيني، إلى المنهج الذي سلكته في كتابة السيرة النّبوية، والذي تضمن تصحيحا للأخطاء، بل للانحرافات، التي وقع فيها كثير من الكتّاب العصريين، لا سيما أولئك الذين يتعاملون مع الشعار العصري المشبوه:(قراءة معاصرة) .
ولقد تحدثت عن هذه الأخطاء وعن العوامل الخفية والمصطنعة التي أدت إليها، كما تحدثت عن المنهج العلمي الذي يجب أن يتبع في كتابة السيرة النّبوية، مقارنا بالمدارس والمناهج الأخرى، وذلك في فصل أضفته، في إحدى الطبعات الأخيرة لهذا الكتاب، إلى المقدّمات الهامة التي افتتحته بها؛ وعنوانه (السّيرة النّبوية، كيف تطورت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم) .
كثيرون هم الذين حلّلوا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاباتهم، على أنها عظمة إنسانية مجردة، كالتي اتّصف بها كثير من القادة والرجال الذين خلوا من قبله وجاؤوا من بعده؛ وكثيرون هم الذين أصرّوا على أن يفهموا الناس أن الفتح الإسلامي الذي قاده رسول الله؛ إنما هو ثورة يسار اقتصادي ضدّ يمين متطرف! .. وكثيرون هم الذين أوهموا الناس، أو حاولوا أن يوهموهم، أن الدوافع الخفية التي قادت رسول الله ومن معه إلى ما صنع، إنما تتمثل في الرغبة الطامحة إلى نقل الزعامة والسيادة من أيدي الأعاجم إلى أيدي العرب. وجنّدت لهذه الأغراض أقلام، ونثرت ابتغاء تحقيق ذلك أعطيات وأموال؛ ورشح مؤلف هذا الكتاب ذاته في يوم من الأيام، لسلوك هذا الطريق وكتابة سيرة رسول الله بالطريقة التي تخدم هذه الأغراض، وطلب منه ذلك مباشرة وعلانية.
غير أن التّجربة أثبتت أن كلّا من الأسلوب أو المنهج أو حوك التصورات المصطنعة، لا يقوى على تحويل الحق إلى باطل أو الباطل إلى حق. فلقد انقشعت سحب هذه الكتابات كلها، على الرغم من كثافتها، وعادت شمس الحقيقة ساطعة من ورائها كما هي. وبقي الناس عامة والمثقفون خاصة، على يقين بأن عظمة رسول الله ثمرة من ثمار نبوته، قبل أن تكون من نسيج إنسانيته. وبأن الفتح الذي تمّ على يده، كان قياما بأمر الله، ولم يكن لحاقا وراء مال.. وبأن السيادة فوق هذه الأرض- فيما علّمنا إيّاه رسول الله- إنما هي للإنسان من حيث هو، فهو
المستخلف عن الله، وهو المكرّم بحكم الله؛ فإن تفاوت الناس وراء هذه السيادة، فإنما يتفاوتون بالتقوى والعمل الصالح، لا بأي من الامتيازات الأخرى التي قد يتباهى بها بعض الناس.
لا جرم أن شدة إقبال الناس على ما كتبته من تصحيح لتلك الأغلاط أو الانحرافات، تعود إلى سبب واحد لا ثاني له، هو تعلّق الفطرة الإنسانية الأصيلة بالحق أينما لاح وأيّا كان المنادي به؛ وثقل الباطل عليها واشمئزازها منه، مهما كانت المغريات التي أنيط بها أو الزينة التي غمس فيها.
ولعل هذا من بعض معنى قول الله عز وجل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
هذا، إلى جانب ما هو بيّن واضح، من أن عقول أكثر الناس تتجه اليوم إلى البحث عن الحقيقة.. الحقيقة الصافية عن الشوائب والمتحررة من سلطان الأغراض والأسبقيات، لا سيما بعد أن ظهر للعيان كيف مني الإنسان بالمصائب الفادحة من جراء التلاعب بالحقائق والسعي إلى إخضاعها لحكم الرعونات والمصالح والأهواء. ولعل هذا من بعض العوامل الكامنة وراء ما نشاهده جميعا من الصحوة الإسلامية، على سائر الأصعدة، وبين جميع الفئات.
*** أما هذه الطبعة، فإنها تمتاز- بعد العناية التي وفقنا الله لها في التّنضيد والإخراج- بقسم سابع يتضمن بيانا موجزا للخلافة الراشدة، وقد كان لا بدّ أن نسير في ذلك على المنهج المتّبع ذاته، فنتبع الحديث عن حياة كل خليفة وأهم الأحداث التي جرت في عهده بالعبر والعظات التي تؤخذ من ذلك.
وبهذا نكون قد وفقنا لجعل هذا الكتاب مصدرا وافيا لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، مع التحليل الذي يضع القارئ أمام فقه ذلك كله، ويصله بالمعاني والمبادئ التي تعدّ ثمرة هذه الدراسة، وأهم الأغراض التي ينبغي أن تقصد من ورائها.
والفضل أولا وآخرا في هذا التوفيق لله عز وجل وحده.
كل ما أرجوه من الله عز وجل، بعد أن أكرمني بهذا التوفيق، أن يزيد من إنعامه فيكرمني بالإخلاص لوجهه الكريم، ويطهّر قلبي عما دون ذلك من الدوافع والأغراض.
ويقيني الذي لا يدخله ريب، أن الأمر كله بيد الله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله.
دمشق 15 رمضان 1411 هـ 1 نيسان 1991 م محمد سعيد رمضان البوطي