الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العبر والعظات:
كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في مكة، فتنة الإيذاء والتعذيب وما يرونه من المشركين من ألوان الهزء والسخرية. فلما أذن لهم الرسول بالهجرة، أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهم ودورهم وأمتعتهم.
ولقد كانوا أوفياء لدينهم مخلصين لربهم، أمام الفتنة الأولى والثانية. قابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزم عنيد. حتى إذا أشار لهم الرسول بالهجرة إلى المدينة، توجهوا إليها وقد تركوا من ورائهم الوطن وما لهم فيه من مال ومتاع ونشب، ذلك أنهم خرجوا مستخفين متسللين.
ولا يتم ذلك إلا إذا تخلصوا من الأمتعة والأثقال، فتركوا كل ذلك في مكة ليسلم لهم الدين، واستعاضوا عنه بالإخوة الذين ينتظرونهم في المدينة ليؤووهم وينصروهم.
وهذا هو المثل الصحيح للمسلم الذي أخلص الدين لله، لا يبالي بالوطن ولا بالمال والنشب في سبيل أن يسلم له دينه.
هذا عن أصحاب رسول الله في مكة.
أما أهل المدينة الذين آووهم في بيوتهم وواسوهم ونصروهم، فقد قدّموا المثل الصادق للأخوة الإسلامية والمحبة في الله عز وجل.
وأنت خبير أن الله عز وجل قد جعل أخوة الدين أقوى من أخوة النسب وحدها، ولذلك كان الميراث في صدر الإسلام على أساس وشيجة الدين، وأخوته والهجرة في سبيله.
ولم يستقر حكم الميراث على أساس علاقة القرابة إلا بعد أن تكامل الإسلام في المدينة، وصارت للمسلمين دار إسلام قوية منيعة.
يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا، ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال 8/ 72] .
ثم إنه يستنبط من مشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان:
1-
وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام. روى القرطبي عن ابن العربي: «أن هذه الهجرة كانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهي باقية مفروضة إلى يوم القيامة. والتي انقطعت بالفتح، إنما هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن بقي في دار الحرب عصى» «49» . ومثل دار الحرب في ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وأذان، وغير ذلك من أحكامه الظاهرة.
(49) تفسير القرطبي: 5/ 350
ومما يستدل به على ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء 4/ 97، 98] .
2-
وجوب نصرة المسلمين بعضهم لبعضهم، مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكنا.
فقد اتفق العلماء والأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على استنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين، في أي جهة من جهات الأرض، ثم لم يفعلوا ذلك، فقد باؤوا بإثم كبير.
يقول أبو بكر بن العربي: «إذا كان في المسلمين أسراء أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم من ذلك» «50» .
وكما تجب موالاة المسلمين بعضهم لبعضهم، فإنه يجب أن تكون هذه الموالاة فيما بينهم، ولا يجوز أن يشيع شيء من الولاية أو التناصر أو التآخي بين المسلمين وغيرهم. وهذا ما يصرح به كلام الله عز وجل، إذ يقول: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الأنفال 8/ 73] .
يقول ابن العربي: «قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين، فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم» «51» .
ولا ريب أن تطبيق مثل هذه التعاليم الإلهية، هو أساس نصرة المسلمين في كل عصر وزمن، كما أن إهمالهم لها وانصرافهم إلى ما يخالفها هو أساس ما نراه اليوم من ضعفهم وتفككهم وتألب أعدائهم عليهم من كل جهة وصوب.
(50) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 876
(51)
المرجع السابق: 2/ 876