الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه» . قال عبادة بن الصامت:«فبايعناه على ذلك» «34» .
فلما أرادوا الانصراف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان يسمى مقرئ المدينة.
العبر والعظات:
أرأيت كيف بدأ التحول في طبيعة ما كان يلاقيه النّبي صلى الله عليه وسلم طوال هذه السنوات التي خلت من عمر بعثته صلى الله عليه وسلم؟
لقد أينع الصبر، وبدأ الجهد يثمر، واستغلظ زرع الدعوة وأخذ يستوي على سوقه ليعطي النتيجة والثمار.
ولكن، فلنلتفت مرة أخرى- قبل البحث عن الثمرة والبشائر- إلى طبيعة ذلك الصبر النّبوي العظيم، أمام كل تلك الشدائد المختلفة الجسام.
لقد رأينا أن النّبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصر الدعوة على قومه من قريش الذين لم يألوا جهدا في إذاقته كل أصناف المحن والمصائب. بل كان يدخل بين القبائل الآتية من خارج مكة من شتى الجهات والأطراف بمناسبة موسم الحج، فيعرض نفسه كدلال عليهم ويدعوهم إلى بضاعة الدّين وكنز التوحيد، ويذهب ويجيء بينهم فلا يرى مجيبا له. روى أحمد وأصحاب السّنن والحاكم وصححه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: «هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلّغ كلام ربّي؟!» «35» .
إحدى عشرة سنة، والرسول صلى الله عليه وسلم (بأبي هو وأمي) يعاني من حياة لا راحة فيها ولا استقرار، تتربص قريش في كل دقيقة منها بقتله، وتصب عليه ألوانا من المحن والشدائد، فلا ينقص ذلك شيئا من عزيمته ولا يضعف شيئا من قوته وسعيه.
إحدى عشرة سنة، والرسول صلى الله عليه وسلم يعاني من غربة هائلة مظلمة بين قومه وجيرانه وكافة الجماعات والقبائل المحيطة به، فلا ييأس ولا يضجر ولا يؤثر ذلك على شيء من أنسه بربّه عز وجل.
إحدى عشرة سنة من الجهاد والصبر المتواصل في سبيل الله وحده، هي الثمن والطريق إلى
(34) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفود الأنصار وبيعة العقبة. ومسلم في كتاب الحدود. وفي اشتراك عبادة في هذه البيعة كلام طويل، انظر تحقيق ذلك في فتح الباري عند شرح هذا الحديث.
(35)
فتح الباري: 7/ 156، وزاد المعاد: 2/ 50، وانظر الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد: 20/ 269
نشأة مدّ إسلامي زاخر عظيم ينتشر في مشرق العالم وغربه، تتساقط أمامه قوة الروم وتتهاوى بين يديه عظمة فارس، وتذوب من حوله قيم النظم والحضارات.
ثمن من الجهاد والصبر والتعب وخوض الشدائد، كان من السهل جدا على الله عز وجل أن يقيم دعائم المجتمع الإسلامي بدونه. ولكن تلك هي سنّة الله في عباده، أراد أن يتحقق فيهم التعبّد له اختيارا، كما تحققت فيهم صفة العبودية له إجبارا.
ولا يتحقق التعبّد بدون بذل الجهد، ولا يمحّص الصادق من المنافق بدون عذاب أو استشهاد، وليس من العدل أن يكسب الإنسان الغنم دون أن يبذل على ذلك شيئا من الغرم.
من أجل ذلك كلّف الله الإنسان بأمرين اثنين:
1-
إقامة شرعة الإسلام ومجتمعه.
2-
السير إلى ذلك في طريق شائكة مجهدة غير معبدة.
والآن فلنتأمل في هذه الثمار التي أخذت تبدو على رأس إحدى عشرة سنة من دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وطبيعتها، وكيفية نموها:
أولا: جاءت هذه الثمار المنتظرة من خارج قريش بعيدة عن قومه عليه الصلاة والسلام على الرغم من جواره معهم واحتكاكه بهم، فلماذا؟
قلنا في أوائل هذا الكتاب: لقد اقتضت حكمة الله الباهرة أن تسير الدعوة الإسلامية في سبيل لا تدع أي شك للمتأمل في طبيعتها ومصدرها، حتى يسهل الإيمان بها، ولا يقع أي التباس بينها وبين غيرها من الدعوات الأخرى. من أجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميّا لا يقرأ ولا يكتب، ومن أجل ذلك بعث في أمة من الأميين الذين لم يقتبسوا حضارة ولم يعرفوا بمدنية أو ثقافة معينة، ومن أجل ذلك جعله الله مثال الخلق الكريم والأمانة والنزاهة.
ومن أجل ذلك اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون أنصاره الأول من غير بيئته وقومه، حتى لا يظن ظان بأن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في حقيقتها دعوة قومية حاكتها رغبات قومه وظروف بيئته.
وهذا في الواقع من أجلّ الدلائل التي تكشف للمتأمل أن يدا إلهية تحوط حياة الدعوة النبوية وظروفها من كل جانب، كي لا توجد في أي جانب منها ثغرة لمطعن، يقوم به مشكك أو محترف غزو فكري.
وهذا ما قاله واحد من الباحثين الأجانب أنفسهم، فقد جاء في كتاب حاضر العالم الإسلامي، نقلا عن «دينه» قوله:
«إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النّبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الأوربي المحض،
لبثوا ثلاثة أرباع قرن، يدققون ويمحصون بزعمهم، حتى يهدّموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيّهم، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة، والروايات المشهورة من السيرة النبوية، فهل تسنّى لهم شيء من ذلك؟ الجواب: لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد، بل إذا أمعنّا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون من فرنسيين وإنكليز وألمان وبلجيكيين وهولانديين، لا نجد إلا خلطا وخبطا، وإنك لترى كل واحد منهم يقرر ما نقضه غيره» «36» .
ثانيا: يتجلى لدى التأمل فيما سردناه من كيفية بدء إسلام الأنصار، أن الله عز وجل قد مهّد حياة المدينة وبيئتها لقبول الدعوة الإسلامية، وأنه كان في صدور أهل المدينة تهيؤ نفسي لقبول هذا الدين، فما هي مظاهر هذا التهيؤ النفسي؟
لقد كان سكان المدينة المنورة خليطا من سكانها الأصليين وهم العرب المشركون واليهود المهاجرون إليها من أطراف الجزيرة، وكان المشركون ينقسمون إلى قبيلتين كبيرتين إحداهما الأوس، والثانية الخزرج.
وكان اليهود ثلاث قبائل: بني قريظة، وبني النضير، وبني قنيقاع.
ولقد احتال اليهود طويلا- كعادتهم- حتى زرعوا الضغائن بين قبيلتي الأوس والخزرج، فراح العرب يأكل بعضهم بعضا في حروب طاحنة متلاحقة. ويقول محمد بن عبد الوهاب في كتابه (مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم :«أن الحرب لبثت بينهم مئة وعشرين سنة» «37» .
وفي غمار هذه الخصومة الطويلة حالف كل من الأوس والخزرج قبيلة من اليهود، فحالف الأوس بني قريظة، وحالف الخزرج بني النضير وبني قنيقاع، وكان آخر ما بينهم من المواقع موقعة بعاث، وذلك قبل الهجرة بسنوات قليلة، وكان يوما عظيما مات فيه أكثر رؤسائهم.
وفي أثناء ذلك، كان كلما وقع شيء بين العرب واليهود، هدد اليهود العرب بأنّ نبيّا قد آن أوان بعثته وأنهم سيكونون من أتباعه، ويقتلونهم معه قتل عاد وإرم.
فهذه الظروف، جعلت لدى أهل المدينة تطلّعا إلى هذا الدين، وعلقت منهم آمالا قوية به، عسى أن تتوحد بفضله صفوفهم ويعود فيلتئم شملهم وتذوب وتمحى أسباب الشقاق مما بينهم.
ولقد كان هذا مما صنعه الله لرسوله، كما يقول ابن القيم في زاد المعاد «38» : «حتى يمهد بذلك
(36) حاضر العالم الإسلامي: 1/ 33
(37)
مختصر سيرة الرسول: 124
(38)
زاد المعاد: 2/ 50، ط الحلبي.
لهجرته إلى المدينة، حيث اقتضت حكمة الله أن تكون هي المنطلق للمدّ الإسلامي في أرجاء الأرض كلها» .
ثالثا: في بيعة العقبة الأولى، كان قد تمّ إسلام عدد من كبار أهل المدينة، كما ذكرنا.
فكيف كانت صورة إسلامهم؟ وما هي حدود مسؤولياتهم التي حمّلهم الإسلام إياها؟
لقد رأينا أن إسلامهم لم يكن مجرد نطق بالشهادتين، بل كان إسلامهم هو الجزم القلبي والنطق اللساني بهما، ثم التزاما بالبيعة التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، أن ينصبغ سلوكهم بالصبغة الإسلامية عن طريق التمسك بنظمه وأخلاقه وعامة مبادئه، أخذ عليهم أن لا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي معروف يأمرهم به.
وهذه هي أهم معالم المجتمع الإسلامي الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنشائه. فليست مهمته أن يلقن الناس كلمة الشهادة ثم يتركهم يرددونها بأفواههم وهم عاكفون على انحرافاتهم وبغيهم ومفاسدهم. صحيح أن الإنسان يصدق عليه اسم المسلم إذا صدّق بالشهادتين وأحلّ الحلال وحرّم الحرام وصدّق بالفرائض، ولكن ذلك لأن التصديق بوحدانية الله ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام هو المفتاح والوسيلة لإقامة المجتمع الإنساني وتحقيق نظمه ومبادئه، وجعل الحاكمية في كل الأمور لله تعالى وحده. فحيثما وجد الإيمان بوحدانية الله تعالى ورسالة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام لا بدّ أن يتبعه الإيمان بحاكمية الله تعالى وضرورة اتّباع شريعته ودستوره.
ومن أعجب العجب، ما يعمد إليه بعض الذين تأسرهم النظم والتشريعات الوضعية، ممن لا يريدون المجاهرة بنبذ الإسلام واطّراحه، حيث يحاولون أن يسلكوا مع خالق هذا الكون ومالكه مسلكا أشبه ما يكون بمسلك الصلح والمفاوضات.
وسبيل المفاوضة عندهم، أن يقسموا مظاهر المجتمع بينهم وبين الإسلام، فللإسلام من المجتمع مساجده وسائر مظاهره العبادية، يحكم ضمن ذلك على الناس بكل ما يريد، ولهم منه نظمه وتشريعاته وأخلاقه يغيرون منها ويبدلون كما يريدون! ..
ولو أن المتألهين والبغاة الذين أرسلت إليهم الرسل فكذبوا برسالاتهم تنبهوا لهذا الحلّ الطريف إزاء دعوتهم إلى الإسلام، لما توانوا عن الدخول فيه وإظهار الطواعية له، مادام أنه لا يكلفهم التنازل عن حاكميتهم ولا ترك شيء من قوانينهم وتنظيماتهم، ولما بخلوا في مقابل ذلك بكلمة يرددونها أو طقوس يتركون السبيل إليها. ولكنهم علموا أن هذا الدين يكلفهم أول ما يكلفهم الدخول في نظام وحكم جديدين، التشريع والحكم فيه إلى الله وحده، فمن أجل ذلك شاقوا الله ورسوله وعزّ عليهم أن يعلنوا إسلامهم لدعوة الله عز وجل.
وفي بيان هذه الحقيقة والتحذير من فهم الإسلام على أنه كلمات وعبادات فقط، يقول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً [النساء 4/ 60] .
رابعا: ما من ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان هو المتكفل بعبء الدعوة إلى دين الله، إذ هو رسوله إلى الناس كافة فلا بدّ له من تبليغ دعوة ربّه.
ولكن ماذا عن أولئك الذين يدخلون في الإسلام وعن علاقتهم بعبء هذه الدعوة؟
إنك لتجد الجواب على هذا، في إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير مع أولئك الإثني عشر إلى المدينة بدعوة أهل المدينة إلى الإسلام وتعليمهم قراءة القرآن وأحكامه وإقامة الصلاة.
ولقد انطلق مصعب بن عمير سعيدا بتلبية أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وراح يدعو أهل المدينة إلى الإسلام ويقرأ عليهم القرآن ويبلغهم أحكام الله، ولقد كان الرجل يدخل عليه وفي يده حربة يريد أن يقتله بها، فما هو إلا أن يتلو عليه شيئا من كتاب الله ويذكر له بعض أحكام الإسلام، حتى يلقي حربته ويتخذ مجلسه مع من حوله مسلما موحدا يتعلم القرآن وأحكام الإسلام، حتى انتشر الإسلام في دور المدينة كلها ولم يكن بينهم حديث إلا عن الإسلام.
وهل تعلم من هو مصعب بن عمير هذا؟!
إنه ذاك الذي كان أنعم غلام بمكة، وأجود شبانها حلّة وبهاء. فلما دخل الإسلام، طوى كل تلك الرفاهية وذلك النعيم، وانطلق في سبيل الدعوة الإسلامية من وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرع كل شدة ويستعذب كل عذاب حتى قضى نحبه شهيدا في غزوة أحد، وليس له مما يلبسه إلا ثوب واحد، أرادوا أن يكفنوه به، فكانوا إذا غطوا به رأسه خرجت رجلاه وإذا غطوا رجليه خرج رأسه فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى للذي كان فيه من النعمة في صدر حياته، ثم قال:
«ضعوه مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر» «39» .
فليست مهمة الدعوة الإسلامية وقفا على الرسل والأنبياء وحدهم، ولا خلفائهم وورثتهم العلماء الذين يأتون من بعدهم، وإنما الدعوة الإسلامية جزء لا يتجزأ من حقيقة الإسلام نفسه، فلا مناص ولا مفر لكل مسلم من القيام بعبئها مهما كان شأنه أو عمله واختصاصه، إذ حقيقة الدعوة إنما هي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو جماع معنى الجهاد كله في الإسلام، وأنت خبير أن الجهاد فرض من فروض الإسلام تستقر تبعته على كل مسلم.
(39) مسلم: 3/ 48، وانظر الإصابة لابن حجر: 3/ 403