الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العبر والدلائل:
لهذه الوثيقة دلالات هامة تتعلق بمختلف الأحكام التنظيمية للمجتمع الإسلامي. ونلخصها فيما يلي:
1-
إن كلمة (الدستور) هي أقرب إطلاق مناسب في اصطلاح العصر الحديث على هذه الوثيقة. وهي إذا كانت بمثابة إعلان دستور فإنه شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أي دستور حديث يعنى بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة في الداخل والخارج؛ أي فيما يتعلق بعلاقة أفراد الدولة بعضهم مع بعض، وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين.
وحسبنا هذا الدستور الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه واستكتبه أصحابه، ثم جعله الأساس المتفق عليه فيما بين المسلمين وجيرانهم اليهود. حسبنا ذلك دليلا على أن المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسس دستورية تامة، وأن الدولة الإسلامية قامت- منذ أول بزوغ فجرها- على أتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والإدارية.
وظاهر أن هذه المقومات، أساس لابد منه لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المجتمع. إذ هي في مجموعها إنما تقوم على فكرة وحدة الأمة الإسلامية وما يتعلق بها من البنود التنظيمية الأخرى، ولا يمكن أن نجد أرضية يستقر عليها حكم الإسلام وتشريعه ما لم يقم هذا التنظيم الدستوري الذي أوجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، على إنه في الوقت نفسه جزء من الأحكام الشرعية نفسها.
ومن هنا تسقط دعاوى أولئك الذين يغمضون أبصارهم وبصائرهم عن هذه الحقيقة البديهية، ثم يزعمون أن الإسلام ليس إلا دينا قوامه ما بين الإنسان وربه، وليس له من مقومات الدولة والتنظيم الدستوري شيء. وهي أحبولة عتيقة، كان يقصد منها محترفو الغزو الفكري وأرقاء الاستعمار، أن يقيدوا بها الإسلام كي لا ينطلق فيعمل عمله في المجتمعات الإسلامية ولا يصبح له شأن قد يتغلب به على المجتمعات المنحرفة الأخرى. إذ الوسيلة إلى ذلك محصورة في أن يكون الإسلام دينا لا دولة، وعبادات مجردة، لا تشريعا وقوانين. وحتى لو كان الإسلام دينا ودولة في الواقع، فينبغي أن ينقلب فيصبح غير صالح لذلك ولو بأكاذيب القول.
غير أن هذه الأحبولة تقطعت سريعا، لسوء حظ أولئك المحترفين، وأصبح الحديث عنها من لغو القول ومكشوف الحقد والضغائن.
ولكن مهما يكن، فينبغي أن نقول، ونحن بصدد تحليل هذه البنود العظيمة:«إن مولد المجتمع الإسلامي نفسه إنما كان ضمن هيكل متكامل للدولة، وما تنزلت تشريعاته إلا ضمن قوالب من التنظيم الاجتماعي المتناسق من جميع جهاته وأطرافه، وهذه الوثيقة أكبر شاهد على ذلك» .
وهذا مع غض النظر عن قيمة الأحكام التشريعية نفسها من حيث إنها قطع وأجزاء إذا ضمّت إلى بعضها تكوّن منها تنظيم متكامل لبناء دستوري وإداري عظيم.
2-
إن هذه الوثيقة تدل على مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود، ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود، لو لم تتغلب على اليهود طبيعتهم من حب للمكر والغدر والخديعة، فما هي إلا فترة وجيزة حتى ضاقوا ذرعا بما تضمنته بنود هذه الوثيقة التي التزموا بها، فخرجوا على الرسول والمسلمين بألوان من الغدر والخيانة سنفصل الحديث عنها في مكانها المناسب إن شاء الله، فكان المسلمون بذلك في حل مما التزموا به تجاههم.
3-
دلت هذه الوثيقة على أحكام هامة في الشريعة الإسلامية نذكر منها ما يلي:
أولا: يدلنا البند الأول منها على أن الإسلام هو وحده الذي يؤلف وحدة المسلمين وهو وحده الذي يجعل منهم أمة واحدة، وعلى أن جميع الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب وتضمحل ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة، تفهم هذا جليا واضحا من قوله عليه الصلاة والسلام:
«المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس» .
وهو أول أساس لا بد منه لإقامة مجتمع إسلامي متماسك سليم.
ثانيا: يدلنا البند الثاني والثالث على أن من أهم سمات المجتمع الإسلامي ظهور معنى التكافل والتضامن فيما بين المسلمين بأجلى صوره وأشكاله، فهم جميعا مسؤولون عن بعضهم في شؤون دنياهم وآخرتهم. وإن عامة أحكام الشريعة الإسلامية إنما تقوم على أساس هذه المسؤولية، وتحدد الطرائق التنفيذية لمبدأ التكافل والتضامن فيما بين المسلمين.
ثالثا: يدل البند السابع على مدى الدقة في المساواة بين المسلمين لا من حيث أنها شعار براق للزينة والعرض، بل من حيث أنها ركن من الأركان الشرعية الهامة للمجتمع الإسلامي، يجب تطبيقه بأدق وجه وأتم صورة، وحسبك مظهرا لتطبيق هذه المساواة بين المسلمين ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا البند بقوله:«ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم» ومعنى ذلك أن ذمة المسلم أيا كان محترمة، وجواره محفوظ لا ينبغي أن يجار عليه فيه، فمن أدخل من المسلمين أحدا في جواره، فليس لغيره حاكما أو محكوما أن ينتهك حرمة جواره هذا، والمرأة المسلمة لا تختلف في هذا عن الرجل إطلاقا، فلجوارها- أيا كانت- من الحرمة ما لا يستطيع أن ينتهكه أي إنسان مهما علت رتبته وبلغت منزلته، وذلك بإجماع عامة العلماء، وأئمة المذاهب، غير أنه يشترط لذلك شروط معينة ذكرها الفقهاء كأن لا تكون إجارة تضر بالمسلمين كإجارة جاسوس، وأن تكون لعدد محصور، وأن تكون لمدة محدودة بحيث لا تزيد على أربعة أشهر «19» .
(19) راجع مغني المحتاج: 4/ 238
روى الشيخان وغيرهما أن أم هانئ بنت أبي طالب ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فقالت: «يا رسول الله زعم ابن أمي عليّ أنه قاتل رجلا أجرته: فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» .
وتستطيع أن تتأمل هذا فتعلم مدى الرفعة التي نالتها المرأة في حمى الإسلام وظله، وكيف أنها نالت كل حقوقها الإنسانية والاجتماعية كما نالها الرجل سواء بسواء، مما لم يحدث نظيره في أمة من الأمم.
غير أن المهم أن تعلم الفرق بين هذه المساواة الإنسانية الرائعة التي أرستها شريعة الإسلام، والمظاهر التقليدية لها مما ينادي به عشاق المدنية الحديثة اليوم. تلك شريعة من المساواة الدقيقة القائمة على الفطرة الإنسانية الأصيلة، يتوخى منها سعادة الناس كلهم نساء ورجالا، أفرادا وجماعات. وهذه نزوات حيوانية أصيلة يتوخى من ورائها اتخاذ المرأة مادة تسلية ورفاهية للرجل على أوسع نطاق ممكن، دون أي نظر إلى شيء آخر.
رابعا: يدلنا البند الثاني عشر على أن الحكم العدل الذي لا يجوز للمسلمين أن يهرعوا إلى غيره، في سائر خصوماتهم وخلافاتهم وشؤونهم إنما هو شريعة الله تعالى وحكمه، وهو ما تضمنه كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ومهما بحثوا عن الحلول لمشكلاتهم في غير هذا المصدر فهم آثمون، معرضون أنفسهم للشقاء في الدنيا وعذاب الله تعالى في الآخرة.
تلك هي أربعة أحكام انطوت عليها هذه الوثيقة التي أقام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية في المدينة، وجعلها منهاجا لسلوك المسلمين في مجتمعهم الجديد، وإن فيها لأحكاما هامة أخرى لا تخفى لدى التأمل والنظر فيها.
ومن تطبيق هذه الوثيقة، والاهتداء بما فيها، والتمسك بأحكامها، قامت تلك الدولة على أمتن ركن وأقوى أساس، ثم انتشرت قوية راسخة في شرق العالم وغربه تقدم للناس أروع ما عرفته الإنسانية من مظاهر الحضارة والمدنية الصحيحة.