الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوحي الإلهي كله بما يتبعه ويتضمنه من إخباراته عن النشور والحساب والجنة والنار بالحجة الطبيعية ذاتها.
كما غاب عنهم أن الدين الصالح في ذاته لا يحتاج في عصر ما إلى مصلح يتدارك شأنه، أو إصلاح يغيّر من جوهره.
غاب عن هؤلاء الناس هذا كله، مع أن إدراكهم له كان من أبسط مقتضيات العلم. لو كانوا يتمتعون بحقيقته وينسجمون مع منطقيته. لكن أعينهم عشيت في غمرة انبهارها بالنهضة الأوربية الحديثة وما قد حفّ بها من شعارات العلم وألفاظه، فلم تبصر من حقائق المنطق والعلم إلا عناوينها وشعاراتها، وقد كانوا بأمس الحاجة إلى فهم كامل لما وراء تلك العناوين وإلى هضم صحيح لمضمون تلك الشعارات. فلم يعد يستأثر بتفكيرهم إلا خيال نهضة (إصلاحية) تطور العقيدة الإسلامية هنا كما تطورت العقيدة النصرانية هناك.
وهكذا، فقد كان عماد هذه المدرسة الحديثة التي أشرنا إليها بإيجاز، هياجا في النفس، أكثر من أن يكون حقيقة علمية مدروسة استحوذت على العقل.
مصير هذه المدرسة اليوم:
والحقيقة أن الاهتمام بهذه المدرسة في كتابة السّيرة وفهمها، والحماسة التي ظهرت يوما ما لدى البعض في الأخذ بها- إنما كان منعطفا تاريخيا ومرّ.. وعذر أولئك الذين كتب عليهم أن يمروا بذلك المنعطف أو يمر هو بهم، أنهم كانوا- كما قلنا- يفتحون أعينهم إذ ذاك على خبر النهضة العلمية في أوربا، بعد طول غفلة وإغماض. وإنه لأمر طبيعي أن تنبهر العين عند أول لقياها مع الضياء، فلا تتبين حقائق الأشياء، ولا تتميز الأشباه عن بعضها. حتى إذا مرّ وقت، واستراحت العين إلى الضياء، أخذت الأشياء تتمايز وبدت الحقائق واضحة جلية لالبس فيها ولا غموض.
وهذا ما قد تمّ فعلا. فقد انجابت الغاشية، وصفت أسباب الرؤية السليمة أمام الأبصار؛ أبصار الجيل الواعي المثقف اليوم. فانطلق يتعامل مع حقيقة العلم وجوهره، بعد أولئك الذين أخذوا بألفاظه وانخدعوا بشعاراته، ثم عادوا وقد أيقنوا ببصيرة الباحث العليم والمفكر الحر، بأن شيئا مما يسمى بالخوارق والمعجزات لا يمكن أن يتنافى في جوهره مع حقائق العلم وموازينه.
ذلك لأن هذه الخوارق سميت كذلك لخرقها لما هو مألوف أمام الناس. وما كان للإلف أو العادة أن يكون مقياسا علميا لما هو ممكن وغير ممكن. وهيهات أن يقضي العلم يوما ما بأن كل ما استأنست إليه عين الإنسان مما هو مألوف هو وحده ممكن الوقوع، وأن كل ما استوحشت منه عين الإنسان مما هو غير مألوف له غير ممكن الوقوع.
ولقد علم كل باحث ومثقف اليوم بأن أحدث ما انتهت إليه مدارك العلماء في هذا الصدد،
هو أن العلاقة التي نراها بين الأسباب ومسبباتها، ليست إلا علاقة اقتران مطرد، اكتسبت تحليلا، ثم تعليلا، ثم استنبط منها القانون الذي هو تابع لظهور تلك العلاقة وليس العكس.
فإن رحت تسأل القانون العلمي عن رأيه في خارقة أو معجزة إلهية، قال لك بلسان الحال الذي يفقهه كل عالم بل كل متبصر بثقافة العصر: ليست الخوارق والمعجزات من موضوعات بحثي واختصاصي، فلا حكم لي عليها بشيء. ولكن إذا وقعت خارقة من ذلك أمامي فإنها تصبح في تلك الحال موضوعا جاهزا للنظر والتحليل، ثم الشرح والتعليل، ثم تغطي تلك الخارقة بقانونها التابع لها «4» .
وقد انقرض الزمن الذي كان بعض العلماء يظنون فيه أن أثر الأسباب الطبيعية في مسبباتها أثر حتمي يستعصي على التخلف والتغيير. وانتصر الحق الذي طالما نبّه إليه ودافع عنه علماء المسلمين عامة والإمام الغزالي خاصة، من أن علاقات الأسباب بمسبباتها ليست أكثر من رابطة اقتران مجردة. وما العلم في أحكامه وقوانينه إلا جدار ينهض فوق أساس هذا الاقتران وحده. أما سرّ هذا الاقتران فهو عند ذلك الإله العظيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ولقد رأينا العالم التجريبي (دافيد هيوم) كيف يجلّي هذه الحقيقة بأنصع بيان صارم.
نعم، لا بد أن يشترط كل إنسان عاقل يحترم العقل والحقيقة، لقبوله أيّ خبر، سواء تضمن أمرا خارقا أو مألوفا، شرطا واحدا، ألا وهو أن يصل ذلك الخبر إليه عن طريق علمي سليم ينهض على قواعد الرواية والإسناد ومقتضيات الجرح والتعديل، بحيث يورث الجزم واليقين، وتفصيل القول في هذه الموازين العلمية العظيمة يستلزم كلاما طويل الذيل لسنا بصدد شيء منه الآن.
إنّ رجل العلم اليوم. ليأخذ منه العجب كل مأخذ، عندما يقف أمام هذا الذي يقوله رجل مثل حسين هيكل في مقدمة كتابه (حياة محمد) :
«وإنني لم آخذ بما سجلته كتب السّيرة والحديث، لأنني فضلت أن أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية» ! ..
أي أنه يطمئنك إلى أنه لم يأخذ حتى بما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم، حفظا لكرامة العلم! .. إذن فإن ما يرويه الإمام البخاري ضمن قيود رائعة عجيبة من الحيطة العلمية النادرة في رواية الكلمة والخبر، انحراف عن جادة العلم.. على حين تكون طريقة الاستنتاج والحدس والتخمين وما يسمونه بمنهج التوسم، حفظا لكرامته والتزاما لميزانه وجادّته! ..
أليس هذا من أفجع الكوارث النازلة برأس العلم؟ ..
(4) انظر تفصيل هذا البحث في كتاب كبرى اليقينيات الكونية لمؤلف هذا الكتاب: 329 وما بعد.