المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأحكام المتعلقة بذلك: - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

‌الأحكام المتعلقة بذلك:

هذا عن بعض الحكم الإلهية المتعلقة بأمر صلح الحديبية، أما ما يتعلق بذلك من الدلالات والأحكام فإنه لكثير، وسنقتصر من ذلك على ما يلي:

أولا: (الاستعانة بغير المسلمين فيما دون القتال) ، قلنا إن النّبي صلى الله عليه وسلم أرسل بشر بن سفيان عينا إلى قريش ليأتيه بأخبارهم. وبشر بن سفيان كان مشركا من قبيلة خزاعة. وفي هذا تأكيد لما كنا قد ذكرناه سابقا من أن أمر الاستعانة بغير المسلم يتبع الظرف وحالة الشخص الذي يستعان به. فإن كان ممن يطمأنّ إليه ولا تخشى منه بادرة غدر أو خديعة، جازت وإلا فلا. وعلى كل فإن النّبي صلى الله عليه وسلم، في كل الحالات، إنما استعان بغير المسلمين بما دون القتال، كإرساله عينا على الأعداء أو استعارة أسلحة منهم وما شابه ذلك. والذي يبدو أن الاستعانة بغير المسلمين في القضايا السلمية أشبه بالجواز منها في أعمال القتال والحرب.

ثانيا: (طبيعة الشورى في الإسلام) ، لقد رأينا في عامة تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية الشورى وضرورة تمسك الحاكم بها، وعمل النّبي صلى الله عليه وسلم هنا، يدل على طبيعة هذه الشورى والمعنى الذي شرعت من أجله، فالشورى في الشريعة الإسلامية مشروعة ولكنها ليست ملزمة، وإنما الحكمة منها استخراج وجوه الرأي عند المسلمين، والبحث عن مصلحة قد يختص بعلمها بعضهم دون بعض، أو استطابة نفوسهم. فإذا وجد الحاكم في آرائهم ما سكنت نفسه إليه على ضوء دلائل الشريعة الإسلامية وأحكامها، أخذ به، وإلا كان له أن يأخذ بما شاء بشرط أن لا يخالف نصّا في كتاب ولا سنّة ولا إجماعا للمسلمين.

ولقد وجدنا أن النّبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الحديبية، وأشار عليه أبو بكر بما قد علمت، قال له:«إنك يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت، فتوجه له، فمن صدّنا عنه قاتلناه» .

ولقد وافقه النّبي صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر، ومضى مع أصحابه متجها إلى مكة حتى إذا بركت الناقة، وعلم أنها ممنوعة.. ترك الرأي الذي كان قد أشير به عليه، وأعلن قائلا:«والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» . وحينئذ تحول العمل عن ذلك الرأي الذي أبداه أبو بكر، إلى أمر الصلح والموافقة على شروط المشركين، دون أن يستشير في ذلك أحدا، بل ودون أن يصيخ إلى استعظام واستنكار المستنكرين كما قد رأيت.

فهذا يعني أن أمر الشورى يأتي من وراء حكم الوحي الذي هو اليوم: الكتاب والسّنة وإجماع الأئمة، رضوان الله عليهم، كما يدلّ أيضا على أن الشورى إنما شرعت للتبصر بها، لا للإلزام أو التصويت على أساسها.

ثالثا: (التوسل والتبرك بآثار النّبي صلى الله عليه وسلم ، قلنا، إن عروة بن مسعود، جعل يرمق

ص: 237

أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال:«فو الله ما تنخّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده. وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له» .

إنها صورة بارزة حيّة، أوضحها عروة بن مسعود لمدى محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له.

وإن فيها لدلالات هامة يجب أن يقف عليها كل مسلم.

إنها تدل أولا، على أنه لا إيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم بدون محبة له، وليست المحبة له معنى عقلانيا مجردا، وإنما هي الأثر الذي يستحوذ على القلب فيطبع صاحبه بمثل الطابع الذي وصف به عروة بن مسعود أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهي تدل ثانيا، على أن التّبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مندوب إليه ومشروع. ولقد وردت أحاديث صحيحة ثابتة عن تبرّك الصحابة رضي الله عنهم بشعر النّبي صلى الله عليه وسلم، وعرقه، ووضوئه، وبصاقه، والقدح الذي كان يشرب فيه، وقد ذكرنا تفصيل بعض هذه الأحاديث فيما مضى «10» .

(10) انظر ص 140، 141 من هذا الكتاب. حدثني صديق أجلّه أن رجلا عمد إلى الصفحة التي فيها كلام عروة هذا، من كتابي هذا:(فقه السيرة) فاستنسخ منها ما شاء من الصور بال (فوتوكوبي) وجعل يدور بها على الناس، متخذا منها وثيقة اتهام، بل انتقاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم! .. وأقول: أمّا ما عمد إليه هذا الرجل من استكثاره لهذه الصفحة التي تضمنت هذا البيان، ونشرها في الناس، ولفت أنظارهم إلى ما قد دلّت عليه، فلا ريب أنه مشكور على ذلك ومأجور، لو خلصت النية وصفا القصد.. فإنّ عمله هذا ليس إلّا تأكيدا لحقيقة ثابتة قد يجهلها كثير من الناس اليوم، ألا وهي شدة تعظيم الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبلغ الذي بلغه حبهم العجيب له! .. وما أكثر الألغاز الجاثمة التي تتحدى العقل، في معالم الفتح الإسلامي وأحداثه، لو لم يفسرها هذا الحب العظيم الذي هيمن على مجامع القلوب، وامتد إلى أغوار النفوس، والذي جاء ثمرة اليقين العقلي الجازم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول الله ورحمته المهداة إلى الناس أجمعين. وأمّا ما قصد إليه هذا الإنسان، من وراء ذلك، من تشويه مكانة محمد عليه الصلاة والسلام في القلوب، وإظهاره في أعين الناس في مظهر المدلّ على أصحابه، المتلذذ برؤية هذا الذي يتسابقون إليه، وإبرازه في صورة الثقيل السمج، دأبه أن يري الناس من نفسه ما كان خليقا به أن يستره عنهم، يروّضهم بذلك على حبّه والاستئناس بكل ما قد يتصل به أو ينفصل عنه

أقول: أمّا ما قد قصد إليه هذا الرجل من ذلك، فقد أبعد النّجعة، وأخطأ الطريق، وخانه الهدف!

كثيرون هم الذين سعوا هذا السعي؛ واعتصروا الفكر، واستنجدوا بالحيلة، وناشدوا التاريخ، كي يتاح لهم أن ينسجوا صورة من هذا القبيل لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عادوا من سعيهم أو محاولتهم بأي طائل. وظلّ كل من العقل والتاريخ والفكر الحرّ أمينا على الكلمة الجامعة التي وصف الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. اقرأ ما تشاء من صفحات أي كتاب في شمائل هذا الرسول العظيم، تجد نفسك أمام المثل الأعلى، والنموذج الأتم

ص: 238

وإذا علمت أن التّبرك بالشيء إنما هو طلب الخير بواسطته ووسيلته علمت أن التوسل بآثار النّبي صلى الله عليه وسلم أمر مندوب إليه ومشروع، فضلا عن التّوسل بذاته الشريفة.

للإنسانية السامية الصافية عن الشوائب، وللذوق الرفيع في مقاييس المعاملة والسلوك، وللإحساس المرهف في رعاية الآخرين والاهتمام بهم، وللنظافة والرتابة وأناقة الشكل والمظهر، وللتواضع المتناهي أمام كل فئات أصحابه. لم يكن يستقبل الوافدين إليه إلا بأنظف الثياب وأبهى الحلل. كان أشدّ ما يكون حرصا على أن لا يرى الناس منه إلا ما تسرّ به العين، وأن لا تقع أنوفهم منه إلا على أطيب رائحة. وقد ثبت أنه كان ينفق جلّ ماله في الطيب. لم يكن يأكل ثوما أو بصلا، أو أي طعام يتأذى الناس منه برائحة كريهة. ولما كان ضيفا في دار أبي أيوب الأنصاري، في أيامه الأولى من هجرته إلى المدينة، وعادت قصعة الطعام من عنده مرّة دون أن يطعم منها شيئا، فزع أبو أيوب وهرع إلى رسول الله يسأله عن سبب ذلك، فقال:«لقد شممت فيه رائحة تلكم الشجرة (أي الثوم) وأنا أناجى (أي يزورني الناس وأحادثهم) أما أنتم فكلوا» . وكان إذا مضى لقضاء حاجة، أبعد، ثم أبعد، حتى لا يقع الناس منه على أثر. وكان يرجّل شعره، ويتعهد فمه وأسنانه؛ وربما أبصر صفرة في أسنان بعض جلسائه، فتوجه إلى الجميع بنصيحة عامة ونقد رفيق، وقال:«مالكم تأتونني قلحا لا تتسوكون؟» . هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام، في بعض ما تتحدث عنه شمائله المعبرة عن سموّ أخلاقه، ورقة شعوره، وشفافية ذوقه، ونبل إحساسه. فهل ترى في هذه اللوحة الإنسانية النموذجية، مساحة ما، لقبول أي عبث أو تزوير وتشويه؟ إذن فليس في شيء من حديث عروة بن مسعود عن حبّ الصحابة لرسولهم، ما يلحق بالرسول أي منقصة في طبعه، أو يصمه بأي غلظة في تعامله وسلوكه، أو يبرزه في مظهر المدلّ زهوا على أصحابه، أو الدافع لهم إلى ما فعلوا. *** فإن أراد هذا الرجل أن يتحول، بعدئذ، بالنقد والاشمئزاز إلى أولئك الناس الذين ساقهم الحب إلى ما صنعوا، فإنّ عليه أن يتبيّن قبل كل شيء خصمه الحقيقي الذي أثار في نفسه بواعث النقد والاشمئزاز حتى لا يتهم البرآء ظلما وعدوانا. وإنما خصمه في هذه الدعوى هو الحب!

الحب هو الذي حمل أولئك الناس على فعل ما وصفه عروة بن مسعود، وفعل ما هو أبلغ من ذلك! .. والحب، هو الذي ليّن تحت سلطانهم الحديد، وقرب إليهم البعيد، وجعل المستحيل بين أيديهم ممكنا، وجعل القبح جميلا، والملح الزّعاق حلوا طيب المذاق! .. هذا هو شأن الحب، وذلك هو جبروته وسلطانه. فإن علم هذا الرجل، أن في نواميس هذه الحياة سلطانا أقوى نفوذا إلى النفوس، وهيمنة على القلوب من سلطانه، فليشكه إليه، وليستعده عليه، وليصف له اشمئزاز نفسه، من هذا الذي يفعله الحب، بنفوس الناس، ومن العمل الذي يحملهم عليه!

ولكن يا عجبا! .. يرى ويعلم هذا الرجل وأمثاله ما يفعله الحب الأرعن بأصحابه، أعني ذلك الحب الذي يتسلل إلى القلب في غفلة من العقل، أو مع تحدّ للعقل وأحكامه، إذ يسوقه إلى شذوذات عجيبة في السلوك ويزجّه في أوحال من المهانة والقذارة التي يشمئز من بيانها البيان، فلا يستعظم من ذلك شيئا، ولا تشعره نفسه الحساسة بأي قرف أو

ص: 239

وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته، فآثار النّبي صلى الله عليه وسلم وفضلاته، لا تتصف بالحياة مطلقا، سواء تعلق التّبرك والتّوسل بها في حياته أو بعد وفاته، كما ثبت في صحيح البخاري في باب شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومع ذلك، فقد ضلّ أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وراحوا يستنكرون التّوسل بذاته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، بحجة أن تأثير النّبي صلى الله عليه وسلم قد انقطع بوفاته، فالتّوسل به، إنما هو توسل بشيء لا تأثير له ألبتة!

وهذه حجة تدل- كما ترى- على جهل عجيب جدا! ..

فهل ثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تأثير ذاتي في الأشياء في حال حياته، حتى نبحث عن مصير هذا التأثير من بعد وفاته؟!. إن أحدا من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أي تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد جل جلاله، ومن اعتقد خلاف هذا يكفر بإجماع المسلمين كلهم.

فمناط التّبرك والتّوسل به أو بآثاره صلى الله عليه وسلم، ليس هو إسناد أي تأثير إليه، والعياذ بالله وإنما المناط، كونه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق، وكونه رحمة من الله للعباد فهو التّوسل

اشمئزاز، بل ما أكثر ما يبارك كتاب، وأدباء، وشعراء، هذا الشذوذ (الوردي) ، وما أسهل أن يتصوروه أو يصوروه تجسيدا رائعا للهيجان الخمري المعتّق! .. حتى إذا رأى صورة ذلك الحب العلوي الذي ينسكب في المشاعر من القلب والعقل معا، وأبصر شيئا من آثاره في حياة صاحبه وسلوكه، تعجب واستغرب، واصطنع التأفف والاشمئزاز، وأخذ يندب اللباقة والذوق الرفيع!

ألا، فليعلم هذا الرجل وأمثاله أن كل شيء في الدنيا يخضع لقانون مستقل عنه، إلا الحب، فلن تراه خاضعا إلا لقانونه ذاته! .. والويل كل الويل لمن كان حب قلبه تمردا على عقله. وليهنأ ذاك الذي كان حبه القلبي تجاوبا مع قراره العقلي. وحسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا وفخرا أن الحب الذي استبد بقلوبهم لرسول الله، كان شعاع إيمانهم العقلي بصدق نبوته، وسمّو مكانته عند رب العالمين جل جلاله. فليفعل بهم هذا الحب ما يشاء، وليحملهم على التبرك والتمسّح بعرقه وبصاقه وما يتساقط من شعره وما يتقاطر من ماء وضوئه.. فإنما هي لغة الحب.. ولا تصاغ لغة الحب إلا في داخل بوتقته ولا يتحكم بها غيره. وإني لأعلم أن في الناس اليوم من لو رأت أعينهم محمدا صلى الله عليه وسلم، يمشي على الأرض، لهاج بهم هائج الحب، ولخرّوا إلى الأرض، يلعقون الثرى الذي سما وازدهى تحت قدمي رسول الله! .. ولا يخاصم منطق الحب هذا إلا من يقارعه بمنطق الكراهية والبغض. وخصومة كهذه، لا يقرها منطق ولا يدعمها عقل، إذ من البدهي أن الجدل حول أمر ما، لا يتحرك ويتفاعل إلا فوق أرض من اليقين بحقيقة مشتركة بين الطرفين. وقد التقطت حكمة الدهر كلمة قيل إن مجنون بني عامر قالها يوم سمع أن في الناس من يعيب عليه وينتقده لتعلقه بليلى، وهي فيما زعموا سمراء دميمة. فقال: لو نظروا إليها بعيني لعلموا أنهم مخطئون.

ص: 240

بقربه صلى الله عليه وسلم إلى ربّه، وبرحمته الكبرى للخلق. وبهذا المعنى توسل الأعمى به صلى الله عليه وسلم في أن يردّ عليه بصره، فردّه الله عليه «11» ، وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره وفضلاته دون أن يجدوا منه أي إنكار، وقد مرّ في هذا الكتاب بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النّبوة في الاستسقاء وغيره، وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة الحنبلي والصنعاني وغيرهم «12» .

والفرق، بعد هذا، بين حياته وموته صلى الله عليه وسلم، خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوّغ له.

رابعا: (حكم الوقوف على الإنسان وهو قاعد) ، لقد علمت مما سبق أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، كان واقفا على رأس النّبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وكلما أهوى عروة بن مسعود بيده إلى لحية النّبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، قائلا:«أخّر يدك عن وجه رسول الله» .

وقد كنّا ذكرنا فيما مضى عند الحديث عن غزوة بني قريظة- أنه لا يشرع القيام على رأس أحد وهو قاعد، وأن ذلك من مظاهر التعظيم الذي تعارفه الأعاجم فيما بينهم وأنكره الإسلام، وإنه التمثّل الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:«من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» . فكيف كان الأمر على خلاف ذلك هنا؟

والجواب، أنه يستثنى من عموم المنع، مثل هذه الحالة بخصوصها، أي في حالة قدوم رسل للعدو إلى الإمام أو الخليفة، فلا بأس حينئذ من قيام حرس أو جند على رأسه، إظهارا للعزة الإسلامية، وتعظيما للإمام ووقاية له مما قد يفاجأ به من سوء «13» . أما في أعم الأحوال فلا يجوز ذلك لمخالفته مقتضى التوحيد والعقيدة الإسلامية، دون أي ضرورة إليه.

ويشبه هذا، ما مرّ بيانه، عند الحديث عن أبي دجانة في غزوة أحد، فقد قلنا: إن كل ما يدل على التكبر أو التجبر في المشي ممنوع شرعا ولكنه جائز في حالة الحرب بخصوصها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم عن مشية أبي دجانة: إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموضع.

خامسا: (مشروعية الهدنة بين المسلمين وأعدائهم) ، استدل العلماء والأئمة بصلح الحديبية

(11) حديث توسل الأعمى برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجوع بصره إليه، حديث صحيح رواه الترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا أعمى جاء إلى النّبي صلى الله عليه وسلم وهم جلوس معه، فشكا إليه ذهاب بصره فأمره بالصبر. فقال ليس لي قائد وقد شقّ عليّ فقد بصري. فقال:«ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي اللهم فشفّعه فيّ» . وفي بعض الروايات بزيادة: فإن كان لك حاجة فمثل ذلك. قال عثمان بن حنيف: فو الله ما تفرق بنا المجلس حتى دخل علينا فكان بصيرا.

(12)

انظر ص 46 من هذا الكتاب.

(13)

انظر زاد المعاد لابن القيم: 2/ 114

ص: 241

على جواز عقد هدنة بين المسلمين وأهل الحرب من أعدائهم إلى مدة معلومة، سواء أكان ذلك بعوض يأخذونه منهم أم بغير عوض، أما بدون عوض فلأن هدنة الحديبية كانت كذلك، وأما بعوض فبقياس الأولى لأنها إذا جازت بدون عوض، فلأن تجوز بعوض أقرب وأوجه.

وأما إذا كانت المصالحة على مال يبذله المسلمون، فهو غير جائز عند جمهور المسلمين، لما فيه من الصغار لهم، ولأنه لم يثبت دليل من الكتاب أو السّنة على جواز ذلك، قالوا: إلا إن دعت إليه ضرورة لا محيص عنها وهو أن يخاف المسلمون الهلاك أو الأسر فيجوز، كما يجوز للأسير فداء نفسه بالمال.

سادسا: ذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وكثير من الأئمة إلى أن الصلح لا ينبغي أن يكون إلا إلى مدة معلومة، وأنه لا يجوز أن تزيد المدة على عشر سنوات مهما طالت، لأنها هي المدة التي صالح النّبي صلى الله عليه وسلم قريشا عليها عام الحديبية.

سابعا: الشروط في عقد الهدنة تنقسم إلى صحيحة وباطلة، فالصحيح كل شرط لا يخالف نصّا في كتاب الله أو سنّة نبيّه، مثل أن يشترط عليهم مالا أو معونة للمسلمين عند الحاجة، أو أن يشترط لهم أن يرد من جاءه من الرجال مسلما أو بأمان، ولقد أطلق الأئمة صحة هذا الشرط الأخير، ما عدا الشافعي رضي الله عنه، فقد شرط لذلك أن تكون له عشيرة تحميه بين الكافرين، وحمل على ذلك موافقة النّبي صلى الله عليه وسلم على هذا الشرط لقريش «14» .

والباطل، كل شرط فيه معارضة لحكم شرعي ثابت، ومنه أن يشترط ردّ النساء المسلمات أو مهورهن إليهم، أو إعطائهم شيئا من سلاح المسلمين أو أموالهم. وأساس الاستدلال على هذا عدم ردّ النّبي صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي جئن هاربات بدينهن، ونهي القرآن صراحة عن ذلك، كما مرّ بيانه في حينه.

ولعلك تقول: أفلم يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عهدا قطعه على نفسه، وذلك إذ وافق على ردّ كل من أتاه مسلما من مكة؟ .. والجواب أن ذلك ليس نصّا في خصوص النساء، بل يحتمل أنه لا ينحطّ إلا على الرجال وحدهم. ومهما يكن فقد علمت فيما سبق أن تصرفات النّبي صلى الله عليه وسلم لا تكتسب قوة الحكم الشرعي إلا إذا أقرها الكتاب بالسكوت عليها أو التأكيد لها. ولقد أقرّ الكتاب كل بنود المصالحة، إلا ما يتعلق بردّ النساء إلى بلد الكفر، فلم يقرّه، وذلك على فرض دخوله في بنود الاتفاقية وشروطها.

ثامنا: (حكم الإحصار في العمرة والحج) ، ودلّ عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من أمر

(14) راجع للتوسع في موضوع الهدنة، مغني المحتاج: 4/ 260، والمغني لابن قدامة: 9/ 290، والهداية: 2/ 103، وبداية المجتهد: 1/ 374

ص: 242