الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن إسحاق: «ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمرّ به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا.
وقد قصّ الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم في قوله: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إلى قوله: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف 46/ 29]، وقوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.. الآيات [الجن 72/ 1] .
ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة- يريد دخول مكة. فقال له زيد: «كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك؟ فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه» . ثم أرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي يخبره أنه داخل مكة في جواره، فاستجاب مطعم لذلك. وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة» «18» .
العبر والعظات:
إذا تأملنا، في هذه الهجرة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، وما انطوت عليه من العذاب الواصب الذي رآه عليه الصلاة والسلام، ثم في شكل عودته إلى مكة، نستخلص الأمور التالية:
أولا: إن ما كان يلاقيه النبي عليه الصلاة والسلام من مختلف ألوان المحنة، لا سيما هذا الذي رآه في ذهابه إلى الطائف، إنما كان من جملة أعماله التبليغية للناس..
فكما أنه جاء يبلغنا العقيدة الصحيحة عن الكون وخالقه، وأحكام العبادات والأخلاق والمعاملات، كذلك جاء يبلغ المسلمين ما كلفهم الله به من واجب الصبر، ويبين لهم كيفية تطبيق الصبر والمصابرة اللذين أمر بهما في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا [آل عمران 3/ 200] .
ولقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم القيام بالعبادات بالوسيلة التطبيقية، فقال:«صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقال: «خذوا عني مناسككم» . وبناء على هذا المبدأ نفسه قاسى أمرّ أنواع المحن في سبيل الدعوة ليقول بلسان حاله لجميع الدعاة من بعده: «اصبروا كما رأيتموني أصبر» . وليبين أن الصبر ومصارعة الشدائد من أهم مبادئ الإسلام التي بعث بها إلى الناس كافة.
وربما يتوهم من اطلع على ظاهر سيرة هجرته عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، أنه صلى الله عليه وسلم قد غلب على أمره هناك، وأن الضجر قد نال منه، وأنه ربما استعظم كل تلك المحن والمشاق التي أصابته، ولذلك توجه إلى الله بذلك الدعاء بعد أن اطمأن في بستان ابني ربيعة.
(18) طبقات ابن سعد: 1/ 196 وسيرة ابن هشام: 1/ 381
ولكن الحقيقة أنه عليه السلام قد استقبل تلك المحن راضيا، وتجرع تلك الشدائد صابرا محتسبا، وإلا فقد كان بوسعه- لو شاء- أن ينتقم من السفهاء الذين آذوه ومن الزعماء الذين أغروا به أولئك السفهاء وردوه ذلك الرد المنكر، ولكنه عليه السلام لم يشأ ذلك.
ودليل ذلك، ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال:
إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت. قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال رسول الله: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» .
إذن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلّم أصحابه وأمته من بعده بما كان يلاقيه، الصبر، بل وفن الصبر أيضا على جميع الشدائد والمكاره في سبيل الله عز وجل.
ربما يقول قائل: فما معنى ارتفاع صوته بالشكوى إذن، وما معنى دعائه الذي تدل ألفاظه وصيغته على الضجر والملل من طول المحاولة التي لم تأت بنتيجة إلا الأذى والعذاب؟
والجواب، أن الشكوى إلى الله تعبد، والضراعة له والتذلل على بابه تقرب وطاعة. وللمحن والمصائب حكم، من أهمها أنها تسوق صاحبها إلى باب الله تعالى وتلبسه جلباب العبودية له، فليس إذن بين الصبر على المكاره والشكوى إلى الله تعالى أي تعارض، بل الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمنا في حياته كلا الأمرين، فكان بصبره الشديد على المحن يعلمنا أن هذه هي وظيفة المسلمين عامة والدعاة إلى الله خاصة، وكان بطول ضراعته والتجائه إلى الله تعالى يعلمنا وظيفة العبودية ومقتضياتها.
على أن النفس البشرية مهما تسامت فهي لا تتجاوز دائرة بشريتها على كل حال، والإنسان مجبول في أصل فطرته على الإحساس والشعور.. الشعور بلذة النعيم والشعور بألم العذاب، وهو مجبول على الركون إلى الأول والفزع من الثاني.
وهذا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وهو يوطّن نفسه لتلقي كل أنواع الضر والعذاب في سبيل ربه فهو مع ذلك بشر، يتألم للضر ويستريح للنعيم.
ولكنه مع هذا يفضل الضر مهما كانت آلامه، على النعيم مهما كانت لذائذه، إرضاء لوجه ربه وأداء لحق العبودية عليه. ولا ريب أن هذا هو مناط استحصال الثواب وظهور معنى التكليف للإنسان.
ثانيا: إذا تأملت في مشاهد سيرته صلى الله عليه وسلم مع قومه، وجدت أن ما كان يجده صلى الله عليه وسلم من الأذى في هذه المشاهد قد يكون قاسيا شديدا، بيد أنك واجد في كل مشهد منها ما يعتبر ردا إلهيا على ذلك الإيذاء وما يهدف إليه أربابه. كي يكون في ذلك مواساة للرسول عليه الصلاة والسلام، وكي لا يتجمع في النفس من عوامل التألم والضجر ما يدخل إليها اليأس.
ففي مشهد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وما قد اكتنفها من العذاب المضني: عذاب الإيذاء وعذاب الخيبة- مما قد مرّ ذكره- تجد ردا إلهيا واضحا على سفاهة أولئك الذين آذوه ولحقوا به واعتذارا له عن سفاهتهم وغلظتهم، تجد ذلك في مظهر الرجل النصراني (عداس) حينما جاء يسعى إليه وفي يده طبق فيه عنب، ثم انكب فجعل يقبل رأسه ويديه ورجليه وذلك عندما أخبره عليه الصلاة والسلام أنه نبي.
وحسبنا لتصوير مشهد هذا الاعتذار من إيذاء أولئك السفهاء، أن ننقل لك كلام مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في ذلك، بعد أن ذكر القصة:
«يا عجبا لرموز القدر في القصة! ..
لقد أسرع الخير والكرامة والإجلال، فأقبلت تعتذر عن الشر والسفاهة والطيش، وجاءت القبلات بعد كلمات العداوة.
وكان ابنا ربيعة من ألد أعداء الإسلام، وممن مشوا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم من أشراف قريش يسألونه، أن يكفه عنهم أو يخلي بينهم وبينه، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الفريقين. فانقلبت الغريزة الوحشية إلى معناها الإنساني الذي جاء به هذا الدين لأن المستقبل الديني للفكر لا للغريزة.
وجاءت النصرانية تعانق الإسلام وتعزه. إذ الدين الصحيح من الدين الصحيح كالأخ من أخيه، غير أن نسب الأخوة الدم، ونسب الدين العقل.
ثم أتم القدر رمزه في هذه القصة، بقطف العنب سائغا عذبا مملوءا حلاوة. فباسم الله كان قطف العنب رمزا لهذا العنقود الإسلامي العظيم الذي امتلأ حبّا، كل حبة فيه مملكة» «19» .
ثالثا: وفيما كان يفعله زيد بن حارثة رضي الله عنه، من وقاية للرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، من حجارة السفهاء، حتى إنه شج في رأسه عدة شجاج، نموذج لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم
(19) وحي القلم: 2/ 30
بالنسبة لقائد الدعوة، من حمايته له بنفسه ودفاعه عنه وإن اقتضى ذلك التضحية بحياته.
هكذا كانت حال الصحابة رضي الله عنهم بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير موجود اليوم بيننا، فلا يتصور الدفاع عنه على النحو الذي كان يفعله أصحابه رضي الله عنهم، فإن ذلك يتحقق على نحو آخر؛ هو أن لا نضن على أنفسنا بالمحن والعذاب في سبيل الدعوة الإسلامية وأن نسهم بشيء من تحمل الجهد والمشاق التي تحملها النبي عليه الصلاة والسلام.
على أنه ينبغي أن يكون هنالك قادة للدعوة الإسلامية في كل عصر وزمن، يخلفون قيادة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة. فعلى المسلمين كلهم أن يكونوا من حولهم جنودا مخلصين لهم، يفدونهم بالمهج والأموال، كما كان شأن المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعا: فيما قصه علينا ابن إسحاق من استماع النفر من الجن إليه، وهو يصلي من جوف الليل بنخلة، دليل على وجود الجن وأنهم مكلفون، وأن منهم من آمن بالله ورسوله ومنهم من كفر ولم يؤمن. وقد ارتفعت هذه الدلالة إلى درجة القطع، بحديث القرآن عنهم في نصوص قاطعة صريحة، كالآيات التي في صدر سورة الجن، وكقوله تعالى في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إلى قوله تعالى: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف 46/ 29- 31] .
واعلم أن هذه القصة التي ساقها ابن إسحاق ورواها ابن هشام في سيرته، قد ذكرها البخاري ومسلم والترمذي على نحو قريب وبتفصيل آخر.
واللفظ الذي رواه البخاري بسنده عن ابن عباس «أنه صلى الله عليه وسلم انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب؟ قال:
ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث، فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء؟ قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن، وإنما أوحي إليه قول الجن» «20» .
(20) البخاري: 6/ 73
واللفظ الذي رواه مسلم والترمذي، متفق مع هذا، ولكنهما زادا عليه في صدر الحديث:
«ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق في طائفة..» الحديث.
قال في الفتح: «فكأن البخاري حذف هذه اللفظة عمدا، لأن ابن مسعود أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجن، فكان ذلك مقدّما على نفي ابن عباس، وقد أشار إلى ذلك مسلم، فأخرج عقب حديث ابن عباس هذا حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أتاني داعي الجن فانطلقت معه فقرأت عليه القرآن، ويمكن الجمع بالتعدد» «21» أي يمكن الجمع بين الروايتين بتعدد الحادثة.
ثم إن هذا الذي رواه مسلم والبخاري والترمذي يختلف عما رواه ابن إسحاق من ناحيتين:
الأولى: أن رواية ابن إسحاق خالية عن الإشارة إلى أنه كان يصلي بأصحابه، بل هي تفيد أنه كان يصلي منفردا، في حين أن الروايات الأخرى ذكرت أنه كان يصلي بأصحابه.
الثانية: أن رواية ابن إسحاق ليس فيها تقييد الصلاة بالفجر، والروايات الأخرى تنص على أنه كان يصلي الفجر.
فأما رواية ابن إسحاق فلا إشكال فيها. غير أن الرواية الأخرى تشكل من ناحيتين:
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معه في ذهابه إلى الطائف ورجوعه منها إلا زيد بن حارثة، كما قد علمت، فكيف يستقيم أنه كان يصلي بطائفة من أصحابه؟
الثانية: أن الصلوات الخمس لم تشرع إلا ليلة الإسراء والمعراج، وإنما كان المعراج بعد ذهاب الرسول إلى الطائف، على ما ذهب إليه كثير من المحققين، فكيف يستقيم أنه كان يصلي الفجر؟
والجواب عن الإشكال الأول، أنه يحتمل أن يكون قد التقى ببعض من أصحابه عندما وصل إلى نخلة (وهو مكان قريب من مكة) فصلى بهم الفجر هناك.
أما الإشكال الثاني، فجوابه، أن يقال بأن حادثة الجن واستماعهم للقرآن منه صلى الله عليه وسلم تكرر أكثر من مرة، فقد رويت مرة عن ابن عباس ورويت بصورة أخرى عن ابن مسعود، وكل منهما صحيح، وهذا ما ذهب إليه جمهور المحققين «22» هذا على القول بأن حادثة الإسراء والمعراج كانت بعد الهجرة إلى الطائف أما على القول بأنها كانت قبل ذلك فلا إشكال ألبته.
والذي يهمنا أن نعلمه بعد هذا كله، هو أن على المسلم أن يؤمن بوجود الجن، وبأنهم كائنات حية كلفها الله عز وجل بعبادته كما كلفنا بذلك، ولئن كانت حواسنا ومداركنا لا تشعر بهم، فذلك
(21) فتح الباري: 8/ 473
(22)
انظر عيون الأثر لابن سيد الناس: 1/ 118 وفتح الباري: 8/ 473
لأن الله عز وجل جعل وجودهم غير خاضع للطاقة البصرية التي بثها في أعيننا، ومعلوم أن أعيننا إنما تبصر أنواعا معينة من الموجودات بقدر معين وبشروط معينة.
ولما كان وجود هذه الخليقة مسندا إلى أخبار يقينية متواترة وردت إلينا من الكتاب والسنة، وكان أمرها معلوما من الدين بالضرورة أجمع المسلمون على أن إنكار الجن أو الشك في وجودهم يستلزم الردة والخروج عن الإسلام. إذ أن إنكارهم إنكار لشيء علم أنه من الدين بالضرورة، عدا أنه يتضمن تكذيب الخبر الصادق المتواتر الوارد إلينا عن الله عز وجل وعن رسوله.
ولا ينبغي أن يقع العاقل في أشد مظاهر الغفلة والجهل من حيث يزعم أنه لا يؤمن إلا بما يتفق مع (العلم) ، فيمضي يتبجح بأنه لا يعتقد بوجود الجان، من أجل أنه لم ير الجان ولم يحسّ بهم.
إن من البداهة بمكان أن مثل هذا الجهل المتعالم، يستدعي إنكار كثير من الموجودات اليقينية لسبب واحد هو عدم إمكان رؤيتها. والقاعدة العلمية المشهورة تقول: عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود؛ أي عدم رؤيتك لشيء تفتش عنه لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقودا أو غير موجود.
خامسا: ما موقع كل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في سياحته هذه في الطائف وما أثر كل هذا الذي عاناه، في نفسه؟
يتضح الجواب على هذا فيما قاله النبي عليه الصلاة والسلام لزيد بن حارثة، حينما سأله زيد متعجبا:«كيف تعود يا رسول الله إلى مكة وهم أخرجوك» ؟ فقد أجابه في ثقة واطمئنان قائلا:
«يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيّه» .
وإذن فإن كل ذاك الذي رآه وعاناه في الطائف، بعد القسوة والعذاب اللذين رآهما في مكة، لم يكن له أي تأثير على ثقته بالله تعالى أو على قوة العزيمة الإيجابية في نفسه.
ولا والله، ليست هذه عزيمة بشر أوتي طبعه مزيدا من التحمل أو قوة الإرادة.
ولكنه يقين النبوة كان ثابتا في قلبه صلى الله عليه وسلم فهو يعلم أنه إنما ينفذ أمر ربه ويسير في الطريق التي أمره الله أن يسير فيها، ومما لا ريب فيه أن الله بالغ أمره، وقد جعل لكل شيء قدرا.
والفائدة التعليمية لنا في هذا الأمر، هي أن لا تصدنا المحن والعقبات التي تكون في طريق الدعوة الإسلامية عن السير، وأن لا تبثّ فينا روح الدعة والكسل، ما دمنا نسير على هدى من
الإيمان بالله وتوفيقه فمن استمد القوة من الله جدير به أن لا يعرف لليأس والكسل معنى، إذ مادام هو الآمر، فلا شك أنه هو الناصر أيضا.
وإنما يأتي التخاذل والكسل واليأس بسبب العقبات والمحن التي تعترض السبل والمبادئ الأخرى التي لم يأمر بها الله عز وجل، إذ في مثل هذه الحال يركن العاملون إلى قوتهم الخاصة بهم وجهودهم التي يستقلون بها. ومعلوم أن كل ذلك محدود بنطاق بشري معين، فمن الطبيعي أن ينقلب كل من القوة والتصميم بسبب طول المعاناة والآلام والمحن، إلى يأس وتخاذل نظرا لمقياس القوة البشرية المحدودة.