الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان رد الفعل من قريش أمام جهره بالدعوة، أن أدبروا عنه وتنكروا لدعوته معتذرين بأنهم لا يستطيعون أن يتركوا الدين الذي ورثوه عن آبائهم وأصبح من تقاليد حياتهم. وحينئذ نبههم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة تحرير أفكارهم وعقولهم من عبودية الاتّباع والتقليد، واستعمال العقل والمنطق، وأوضح لهم أن آلهتهم التي يعكفون على عبادتها لا تفيدهم أو تضرهم شيئا، وأن توارث آبائهم وأجدادهم لعبادتها ليس عذرا في اتباعهم بدون دافع إلا دافع التقليد، كما قال عز وجل في حقهم: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ!؟ [المائدة 5/ 104] .
فلما عاب آلهتهم، وسفه أحلامهم، وجرّ اعتذارهم عن تمسكهم بعبادة الأصنام أنها تقاليد آبائهم وأجدادهم، إلى وصف آبائهم بعدم العقل، أعظموا الأمر، وناكروه، وأجمعوا خلافه وعدوانه، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام، وإلّا عمه أبا طالب الذي حدب عليه، ومنعه، وقام دونه.
العبر والعظات:
في هذا المقطع من سيرته عليه الصلاة والسلام دلالات ثلاث نجملها فيما يلي:
أولا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما صدع بالدعوة إلى الإسلام في قريش وعامة العرب، فاجأهم بما لم يكونوا يتوقعونه أو يألفونه. تجد ذلك واضحا في ردّ أبي لهب عليه، ثم في اتفاق معظم المشركين من زعماء قريش على معاداته ومقاومته.
وفي ذلك الردّ القاطع على من يحاولون تصوير هذا الدين بشرعته وأحكامه، ثمرة من ثمار القومية ويدعون أن محمدا عليه الصلاة والسلام إنما كان يمثل بدعوته التي دعا إليها، آمال العرب ومطامحهم في ذلك الحين.
وليس الباحث بحاجة إلى أن يتعب نفسه بأي ردّ أو مناقشة لهذه الدعوى المضحكة عندما يطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. فالذين يروجون لها بين الناس هم أول من يعلم سخفها وبطلانها.
ولكنها على كل حال دعوى لابد منها في نظرهم من أجل إزاحة الدين وسلطانه عن سبيل المبادئ والأفكار الأخرى. فليس المهم أن تكون الدعوى صحيحة حتى يمكن الترويج لها، ولكن المهم أن تكون مصلحتهم وأغراضهم تتطلب ترويج ذلك وادعاءه، ولعلك لم تنس ما ذكرناه مفصلا فى المقدمة الخامسة بصدد هذا الموضوع.
ثانيا- كان من الممكن أن لا يأمر الله رسوله بإنذار عشيرته وذوي قرباه خاصة، اكتفاء بعموم أمره الآخر وهو قوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ إذ يدخل أفراد عشيرته وذوو قرباه في عموم الذين سيصدع أمامهم بالدعوة والإنذار، فما الحكمة من خصوصية الأمر بإنذار العشيرة؟
والجواب: أن في هذا إلماحا إلى درجات المسؤولية التي تتعلق بكل مسلم عموما وأصحاب الدعوة خصوصا.
فأدنى درجة في المسؤولية هي مسؤولية الشخص عن نفسه. ومن أجل إعطاء هذه الدرجة حقها استمرت فترة ابتداء الوحي تلك المدة الطويلة التي رأيناها، أي ريثما يطمئن محمد صلى الله عليه وسلم إلى أنه نبي مرسل، وأن ما ينزل عليه إنما هو وحي من الله عز وجل فيؤمن هو بنفسه أولا ويوطن ذاته لقبول كل ما سيتلقاه من مبادئ ونظم وأحكام.
أما الدرجة التي تليها، فهي مسؤولية المسلم عن أهله ومن يلوذون به من ذوي قرباه.
وتوجيها إلى القيام بحق هذه المسؤولية خصص الله الأهل والأقارب بضرورة الإنذار والتبليغ بعد أن أمر بعموم التبليغ والجهر به. وهذه الدرجة من المسؤولية يشترك في ضرورة تحمل أعبائها كل مسلم صاحب أسرة أو قربى. وليس من اختلاف بين دعوة الرسول في قومه ودعوة المسلم في أسرته بين أقاربه، إلا أن الأول يدعو إلى شرع جديد منزل عليه من الله تعالى، وهذا يدعو بدعوة الرسول الذي بعث إليه، فهو يبلغ عنه وينطق بلسانه. وكما لا يجوز للنبي أو الرسول في قومه أن يقعد عن تبليغهم ما أوحي إليه، فكذلك لا يجوز لرب الأسرة أن يقعد عن تبليغ أهله وأسرته ذلك، بل يجب أن يحملهم على اتباع ذلك حملا ويلزمهم به إلزاما.
أما الدرجة الثالثة: فهي مسؤولية العالم عن حيه أو بلدته، ومسؤولية الحاكم عن دولته وقومه، وكل منهما ينوبان في ذلك مناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هما الوارثان الشرعيان له، لقوله عليه الصلاة والسلام:«العلماء ورثة الأنبياء» . ولتسمية الإمام والحاكم خليفة، أي خليفة لرسول الله.
على أن العلم والدراية من لوازم الإمام والحاكم في المجتمع الإسلامي، فليس من خلاف بين طبيعة المسؤولية المنوطة برسول الله صلى الله عليه وسلم والمنوطة بالعلماء والحكام في الاتساع والشمول. إلا أن الرسول يبلغ- كما قلنا- شرعا جديدا يوحى إليه من الله عز وجل، أما هؤلاء فيمشون على قدمه ويهتدون بهديه ويلتزمون سنته وسيرته فيما يفعلون ويبلغون.
وإذن فقد كان صلى الله عليه وسلم يتحمل المسؤولية تجاه نفسه، بوصف كونه مكلفا. وكان يتحمل المسؤولية تجاه أسرته وأهله، بوصف كونه رب أسرة وذا آصرة قربى، ثم كان يتحمل المسؤولية تجاه الناس كلهم، بوصف كونه نبيا ورسولا مرسلا من الله عز وجل.
ويشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأولى، كل مكلف، وفي الثانية كل صاحب أسرة، وفي الثالثة العلماء والحكام.
ثالثا- عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه أن يأسروا أنفسهم للتقاليد الموروثة عن أبائهم
وأجدادهم دون تفكر منهم في مدى صلاحها أو فسادها، ودعاهم إلى تحرير عقولهم من أسر الاتباع الأعمى وعصبية التقاليد التي لا تقوم على شيء من أساس الفكر والمنطق.
وفي هذا دليل على أن مبنى هذا الدين- بما فيه من عقائد وأحكام- إنما هو على العقل والمنطق، وأن المتوخى في التمسك به إنما هو مصلحة العباد العاجلة والآجلة- ولذلك كان من أهم شروط صحة الإيمان بالله وما يتبعه من أمور اعتقادية أخرى- أن يقوم على أساس من اليقين والفكر الحر، دون أدنى تأثر بأي عرف أو تقليد، حتى قال صاحب جوهرة التوحيد في أرجوزته المعروفة:
فكل من قلد في التوحيد
…
إيمانه لم يخل من ترديد
ومن هنا تعلم أن الدين جاء حربا على التقاليد، والدخول في أسرها. إذ هو قائم في كل مبادئه وأحكامه على أساس العقل والمنطق السليمين، على حين أن التقاليد قائمة على مجرد باعث الاقتداء والاتباع، أي دون أن يكون فيه لعنصر البحث والتفكير الحر أي تأثير. إذ أن كلمة (التقاليد) إنما تعني، في وضع اللغة العربية وما تواضع عليه عرف علماء الاجتماع:«مجموع العادات التي يرثها الآباء عن الأجداد، أو التي تسري، بمجرد عامل الاحتكاك في بيئة من البيئات أو بلدة من البلدان بشرط أن يكون عامل التقليد المجرد هو العصب الرئيسي الذي يمتدّ في تلك العادات من أجل الحياة والبقاء» .
فجميع ما اعتاده الناس من أنماط الحياة في مجتمعاتهم، ومن مظاهر اللهو في أفراحهم، ومن أشكال الحداد في مآسيهم وأحزانهم، مما حاكته عوامل التوارث القديم أو الاقتباس التلقائي عن طريق التأثر والاحتكاك جميع ذلك يسمى في اصطلاح اللغة وعلم الاجتماع (تقاليد) .
إذا علمت هذا، أدركت أن الإسلام لا يمكن أن ينطوي على شيء مما يسمى بالتقاليد، سواء ما كان منه متعلقا بالعقيدة أو مختلف النظم والأحكام. إذ العقيدة قائمة على أساس العقل والمنطق.
والأحكام قائمة على أساس المصالح الدنيوية والأخروية، وهي مصالح تدرك بالتفكير والتدبّر الذاتي وإن قصر عن إدراكها فهم بعض العقول لبعض العوارض والأسباب.
وإذا تبين لك هذا، أدركت مدى خطورة الخطيئة التي يقع فيها من يطلقون كلمة (التقاليد الإسلامية) على مختلف ما يتضمنه الإسلام من العبادات والأحكام التشريعية والأخلاقية.
إذ من شأن هذه التسمية الظالمة وترويجها، أن توحي إلى الأذهان أن قيمة السلوك والخلق الإسلامي ليست بسبب كونهما مبدأ إلهيا يكمن فيه سر سعادة البشر- كما هو الحق- وإنما بسبب أن كلّا من النظام والخلق الإسلامي إنما هو عادات قديمة موروثة من الآباء والأجداد. ولا ريب أن
النتيجة القطعية لهذا الإيحاء أن يضيق أكثر الناس ذرعا بهذا الميراث القديم الذي يراد فرضه على المجتمع في عصر كل ما فيه متطور ومتقدم وجديد.
والواقع أن إطلاق هذا الشعار على الأحكام الإسلامية، ليس في مصدره خطيئة عفوية، وإنما هو حلقة في سلسلة حرب الإسلام بالشعارات الباطلة والمدسوسة.
فالغرض الأول من ترويج كلمة (التقاليد الإسلامية) ، هو أن يؤتى بمعظم نظم الإسلام وأحكامه، ويسدل فوقها شعار (التقاليد) حتى إذا مرّ على ذلك زمن، وارتبط معنى التقاليد بنظم الإسلام وأحكامه في أذهان الناس، ونسوا أن هذه النظم إنما هي في حقيقتها مبادئ قائمة على أساس ما يقتضيه العقل والبحث السليم، أصبح من السهل على أعداء الإسلام أن يحاربوه من النقطة التي تنفذ إليها حرابهم وسهامهم.
إن جميع ما أتى به الإسلام من نظم وتشريعات، إنما هو مبادئ والمبدأ هو ما يقوم على أساس من التفكير والعقل، ويستهدف الوصول إلى مقصد معين. وإذا كانت المبادئ البشرية قد تخطئ الصواب أحيانا لشذوذ في أفكار أصحابها، فإن مبادئ الإسلام لا تخطئ الصواب أبدا لأن الذي شرعها هو خالق العقول والأفكار. وفي هذا وحده دليل عقلي كاف للاقتناع بهذه المبادئ واليقين بوجاهتها وصوابها.
إذ لا ريب أن المسلمين إذا استفاقوا ليجدوا معظم مبادئ الإسلام وأحكامه، كشؤون الزواج والطلاق، وحجاب المرأة وصيانتها، وعامة قضايا السلوك والأخلاق، قد أسبل من فوقه رداء (التقاليد) ، فإن من الطبيعي أن يجدوا بعد ذلك من يدعو إلى نبذ التقاليد والخروج عن أسرها وكسر قيودها، خصوصا في هذا العصر الذي أصبحت السيادة فيه لحرية الرأي والتفكير.
ولكن الحقيقة أن الإسلام لا تقاليد فيه.
إنه الدين الذي جاء لتخليص العقل من براثن التقاليد، كما رأينا في أولى خطوات الدعوة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما التقاليد، فإنما هي تلك التيارات السلوكية التي ينجرف فيها الناس تلقائيا بمجرد باعث المحاكاة والتقليد لدى الإنسان.
المبادئ، هي الخط الذي يجب أن ينضبط به تطور الزمن، لا العكس.
والتقاليد، هي مجموعة الطفيليات التي تنبت تلقائيا وسط الحقول الفكرية للمجتمع. فهي الحشائش الضارة التي لا بد من اجتثاثها وتنقية سبيل التفكير السليم عنها.