الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يملكها» . وروى مسلم عن عائشة بنحوه «58» .
«وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، يوم الفتح، رجلا من المشركين، وكان علي رضي الله عنه يريد قتله، قالت: فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، وفاطمة بنته تستره بثوب، قالت: فسلّمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ بنت أبي طالب. فقال:
مرحبا بأم هانئ. فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد، ثم انصرف.
فقلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي عليّ أنه قاتل رجلا أجرته، فلان: ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» «59» .
وأما أولئك النفر الذين كان رسول الله قد هدر دمهم، فقد قتل بعضهم وأسلم الآخرون:
قتل الحويرث وعبد الله بن خطل ومقيس بن حبابة، وقتلت إحدى الجاريتين المغنيتين وأسلمت الأخرى. وشفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وحسن إسلامه، وأسلم عكرمة، وهبار، وهند بنت عتبة.
روى ابن هشام أن فضالة بن عمير الليثي «60» أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضالة؟ قال: نعم، فضالة يا رسول الله، قال:
واذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله. ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه» .
ومرّ فضالة عائدا إلى بيته بامرأة كان يميل إليها ويتحدث معها، فقالت له: هلمّ إلى الحديث، فانبعث يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت: لا
…
يأبى عليّ الله والإسلام
لو ما رأيت محمدا وقبيله
…
بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا
…
والشرك يغشى وجهه الإظلام
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري عن ابن عباس، تسعة عشر يوما يقصر فيها الصلاة:
يصلي ركعتين.
العبر والعظات:
الآن، وقد رأيت أحداث الفتح العظيم الذي أكرم الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
(58) انظر البخاري: 8/ 135 ومسلم: 6/ 29
(59)
متفق عليه.
(60)
ذكر هذه القصة ابن هشام في سيرته، وأوردها ابن القيم في زاد المعاد.
تستطيع أن تبصر قيمة الدعوة السابقة وأحداثها وأن تبصر أسرارها وحكمها الإلهية مجسدة أمام عينيك.
الآن، وقد اطلعت على قصة فتح مكة، تستطيع أن تدرك قيمة الهجرة منها قبل ذلك.
تستطيع أن تدرك قيمة التضحية بالأرض والوطن والمال والأهل والعشيرة في سبيل الإسلام. فلن يضيع شيء من ذلك كله إن بقي الإسلام.. ولكن ذلك كله لن يغني عن صاحبه شيئا إن لم يكن قد بقي له الإسلام.
الآن، وقد تأملت أحداث هذا الفتح الأكبر، تستطيع أن تدرك تماما قيمة الجهاد والاستشهاد والمحن التي تمت من قبله، إن شيئا من ذلك لم يذهب بددا، ولم ترق نقطة دم لمسلم هدرا، ولم يتحمل المسلمون كل ما لا قوه، مما قد رأيت في غزواتهم وأسفارهم، لأن رياح المصادمات فاجأتهم بها. ولكن كل ذلك كان جاريا وفق حساب.. وكل ذلك كان يؤدي أقساطا من ثمن الفتح والنصر.. وتلك هي سنة الله في عباده؛ لا نصر بدون إسلام صحيح، ولا إسلام بدون عبودية له، ولا عبودية بدون بذل وتضحية وضراعة على بابه وجهاد في سبيله.
والآن، وقد رأيت خبر هذا الفتح، تستطيع أن تدرك القيمة الكبرى لصلح الحديبية، وأن تستشف من وراء ظاهرها الذي أدهش عمر وكثيرا من الصحابة، السر الإلهي الرائع، وأن تقف باطمئنان تام على المعنى الذي من أجله أطلق الله على ذلك الصلح اسم الفتح: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً وإذا أدركت هذا، أدركت مزيدا من حقائق النبوة التي كانت تقود حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
أتذكر يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من وطنه، مكة، مستخفيا في بطون الشعاب والأودية، مهاجرا إلى يثرب، وقد سبقه من قبله ولحقه من بعده أصحابه القلة المستضعفون يتسللون مهاجرين، وقد تركوا المال والأهل والأرض من أجل أن يبقى لهم الدين؟ ..
هاهم أولاء وقد رجعوا إلى الوطن والأهل والمال، وقد كثروا بعد قلة، وتقووا بعد ضعف، واستقبلهم أولئك الذين أخرجوهم بالأمس خاشعين أذلاء خاضعين..
ودخل أهل مكة في دين الله أفواجا، وأقبل بلال الحبشي وهو الذي طالما عذب في رمضاء مكة على أيدي المشركين، فصعد على الكعبة المشرفة ينادي بأعلى صوته:
الله أكبر.. الله أكبر.
ذلك الصوت الذي كان يهمس يوما ما تحت أسواط العذاب: أحد، أحد، أحد، ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى قائلا: لا إله إلا الله محمد رسول الله والكل خاشع منصت خاضع! ..