الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها
وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، وفيها السبي والغنائم التي أخذت من هوازن في غزوة حنين، فقسم السبي هناك. ثم قدم عليه وفد من هوازن مسلمين، وسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم (أي أخّرت قسم السبي والغنائم آملا إسلامكم) . وكان النّبي صلى الله عليه وسلم قد أنظرهم بضع عشرة ليلة حين رجع من الطائف.
فقالوا: يا رسول الله خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا فالحسب أحب إلينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤوا تائبين، وإني رأيت أن أردّ إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيّب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء علينا فليفعل «81» .
فنادى الناس جميعا: قد طيّبنا ذلك يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيّبوا، وأذنوا» «82» ، فأعيد إلى هوازن سبيها.
وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد هوازن- فيما رواه ابن إسحاق- عن مالك بن عوف ما فعل؟
فقالوا بالطائف مع ثقيف، فقال لهم:«أخبروه أنه إن أتى مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مئة من الإبل، فأخبر مالك بذلك، فجاء يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه فيما بين الجعرانة ومكة، فردّ عليه أهله وماله وأعطاه مئة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه» .
وخصّ النّبي صلى الله عليه وسلم المؤلّفة قلوبهم- وهم أهل مكة- بمزيد من الغنائم والآعطيات يتألف قلوبهم على الإسلام، فوجد بعض الأنصار في نفوسهم من ذلك وقالوا:«يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم!» «83» .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الأنصار فاجتمعوا في مكان أعد لهم، ولم يدع معهم أحدا غيرهم، ثم قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
(81) أي بأن يردّ السبي بشرط أن يعطى عوضه فيما بعد.
(82)
رواه البخاري، ورواه الطبري والبيهقي وابن سيّد الناس كلهم عن طريق ابن إسحاق بمزيد من التفصيل.
(83)
متفق عليه.
«يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألّفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي» ، (كلما قال لهم من ذلك شيئا قالوا بلى، الله ورسوله أمن وأفضل)، ثم قال:«ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنّ والفضل. فقال صلى الله عليه وسلم:
«أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدّقتم: أتيتنا مكذّبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك» ، فصاحوا: بل المنّ علينا لله ورسوله.
ثم تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من أجل لعاعة «84» من الدنيا تألّفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار. وإنكم ستلقون أثرة من بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» .
فبكى القوم حتى اخضلّت لحاهم، وقالوا رضينا بالله ورسوله قسما ونصيبا «85» .
وتبعه صلى الله عليه وسلم ناس من الأعراب يسألونه مزيدا من العطاء، حتى اضطروه إلى سمرة تعلق بها رداؤه، فالتفت إليهم قائلا:«أعطوني ردائي أيها الناس، فو الله أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم لا تجدونني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا «86» ، أيها الناس والله ما لي من فيئكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» «87» .
وأدركه أعرابي فجذبه صلى الله عليه وسلم جذبة شديدة من برده، وكان عليه برد نجراني غليظ، حتى أثّرت حاشية الرداء في صفحة عنقه، وقال له، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء «88» .
قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمرا، فلما فرغ، انصرف راجعا إلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد.
(84) اللعاعة: بقلة خضراء تستهوي العين، شبّه بها الدنيا..
(85)
رواه البخاري ومسلم، وابن إسحاق، وابن سعد، بنصوص متقاربة في الزيادة والنقصان.
(86)
رواه البخاري.
(87)
هذه الزيادة أخرجها أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو.
(88)
متفق عليه.