الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نافع رضي الله عنه، فيما رواه البخاري، بأنه إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن، فله سهم واحد. وكانت صفية بنت حيي بن أخطب- زعيم اليهود- بين من أسر من نساء خيبر، فأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلمت- وتزوجها، وجعل مهرها عتقها «19» .
قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحبشة وهو في خيبر جعفر بن أبي طالب ومن معه وهم ستة عشر رجلا وامرأة وجمع آخر كانوا في اليمن. فأسهم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم، بعد أن استأذن في ذلك المسلمين.
قال ابن هشام: «فلما قدم جعفر بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه والتزمه، وقال: ما أدري بأيهما أسرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر» «20» .
ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدا إلى المدينة استعمل على خيبر رجلا من الأنصار قيل إنه سواد بن غزيّة، من بني عدي. فجاءه منها بتمر جنيب «21» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكلّ تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، بالثلاثة، فقال:
لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا» «22» .
العبر والعظات:
أول ما ينبغي أن يسترعي انتباهنا من أمر هذه الغزوة، ملاحظة الفرق بين طبيعتها، وطبيعة الغزوات السابقة التي تحدثنا عنها.
لقد كانت الغزوات السابقة كلها قائمة على أسباب دفاعية، اقتضت المسلمين أن يدافعوا بها عن وجودهم وأن يردوا بها هجمات أعدائهم، كما قد رأيت، لدى بيان سبب كل غزوة منها.
أما هذه الغزوة، وهي أول غزوة تأتي بعد وقعة بني قريظة وصلح الحديبية، فإن لها وضعا آخر، وإنها لتختلف اختلافا جوهريا عن تلك التي كانت من قبلها، وهي تدل بذلك على أن الدعوة الإسلامية قد دخلت في مرحلة جديدة من بعد صلح الحديبية.
(19) متفق عليه.
(20)
خبر قدوم جعفر بن أبي طالب واشتراكه في الغنائم من رواية البخاري وغيره، وليس في البخاري تفصيل كيفية استقباله صلى الله عليه وسلم له.
(21)
التمر الجنيب هو التمر الجيد.
(22)
رواه البخاري وانظر فتح الباري: 7/ 347 والجنيب الجيد من التمر.
فغزوة خيبر أول غزوة بدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغار بها فجأة على اليهود الذين استوطنوا بقاع خيبر، دون أن يبدأوا المسلمين بأي محاربة أو قتال.
لقد كان السبب الوحيد لها هو دعوة اليهود إلى الإسلام، ومحاربتهم على كفرهم وعنادهم عن قبول الحق وأحقادهم المعتلجة في صدورهم على الرغم من الدعوة السلمية التي قامت مدة طويلة على الأدلة والبراهين. ولذلك بات رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة الأولى من وصوله إلى خيبر دون أن يشعر أحدا بوجوده أو أن يقاتل أحدا، وانتظر حتى إذا أصبح ولم يسمع أذانا إلى الصلاة- وهي الشعيرة الإسلامية الكبرى- أغار عليهم وقاتلهم على ذلك. وقد قلنا إنه كان إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإن لم يسمع أذانا أغار.
ويزداد هذا السبب وضوحا إذا تأملت في سؤال علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أعطاه اللواء: «أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ وفي جوابه صلى الله عليه وسلم إذ قال: أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه» .
ولقد استنبط العلماء من غزوة خيبر هذه الدلالات وأحكاما كثيرة مختلفة، نذكر فيما يلي جملة منها:
أولها: (جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة الإسلامية وحقيقتها، بدون إنذار سابق أو دعوة مجددة) ، وهو مذهب الشافعية وجمهور الفقهاء، فذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في إغارته على خيبر. وأما بلوغ الدعوة وتفهّم الإسلام فهما صحيحا على وجهه فهو شرط بالاتفاق.
ثانيهما: (تقسيم الغنائم على الأساس الذي ورد ذكره) ، وهو تقسيم أربعة أخماسها بين الغانمين يعطى للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم؛ سهم له واثنان لفرسه «23» . والخمس الباقي يوزع أخماسا على من نصت عليهم الآية القرآنية: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال 8/ 41] ، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الخمس يوزع من بعده على مصالح المسلمين كما ذهب إلى ذلك الشافعية والحنفية، وقيل يختص به الخليفة فيصرفه فيما يراه، والقولان متقاربان.
ثالثها: (جواز إشراك غير المقاتلين في الغنيمة ممن حضر مكان القتال) ، وذلك بعد استئذان أصحاب الحق فيها. فقد أشرك النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب ومن معه في الغنائم، بإذن من الصحابة، حينما عادوا من الحبشة واليمن.
واعلم أن رواية البخاري في هذا خالية عن التقييد باستئذان المسلمين، ولكن زاد البيهقي في
(23) ذهب أبو حنيفة إلى أن للفارس سهمين، سهم له وآخر لفرسه. وهو محجوج بما ذكرنا من تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم لغنائم خيبر.
روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يقسم لهم كلّم المسلمين فأشركوهم، وزيادة العدل مقبولة. والذي زاد من قيمة القيد الذي رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لأبان بن سعيد، وقد كان أرسله على سرية قبل نجد فعاد منها إلى خيبر بعد انتهاء القتال، وقال له:«اقسم لنا يا رسول الله، فلم يقسم له، وإنما يجمع بين الخبرين بحمل الأول منهما على إذن الجماعة في القسمة، والثاني على عدمه» «24» .
ولعلك تسأل: فما مصير حكم الغنائم هذا، مع ما تطورت إليه اليوم حالة الحروب والجند وسياسة عطاءاتهم ومرتباتهم؟
والجواب: أنك قد علمت مما سبق أن الأموال غير المنقولة من الغنائم لا توزع بين المحاربين عند مالك وأبي حنيفة على نحو ما مرّ بيانه إلا إذا دعت المصلحة أو الضرورة. أما الأموال المنقولة منها فيجب أن توزع على الغانمين بالطريقة ذاتها التي كان يسلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ملاحظة ما تطورت إليه وسائل القتال وطرائقه في تفاوت درجات المقاتلين.
ولا مانع من أن توزع عليهم حصصهم على شكل علاوات أو مرتبات متلاحقة إنما المهم أن الدولة لا يجوز لها أن تستملك شيئا من هذه الأموال لنفسها.
رابعها: (مشروعية عقد المساقاة) ، وهي أن يعامل مالك الأرض غيره على ما فيها من شجر ليتعهده بالسقي والتربية على أن الثمار تكون بينهما، وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم إلى صحة هذا العقد مستدلين على ذلك بمعاملته صلى الله عليه وسلم أهالي خيبر، وانفرد أبو حنيفة رضي الله عنه، فلم يجز ذلك، قال: ولا دليل في الحديث، لأن خيبر فتحت عنوة فكان أهلها عبيدا له صلى الله عليه وسلم، فما أخذه فهو له وما تركه فهو له، وخالفه الصاحبان فاتفقا مع الجمهور على صحته. ثم اختلف العلماء:«هل ينبغي أن يقال بصحة هذا العقد على كل أنواع الشجر أم هو خاص بالنخيل والعنب؟ وقوفا عند مورد الدليل، إذ كانت عامة أشجار خيبر نخيلا وعنبا، والذي ذهب إليه كثير من الفقهاء هو التعميم في كل أنواع الشجر» .
أما المزارعة فقد منعها قسم كبير ممن صحح عقد المساقاة، منهم الشافعية، وهي أن يعامل مالك الأرض شخصا آخر على أن يعمل فيها بالزراعة والاستنبات بجزء مما ستخرجه الأرض، قال جمهور الشافعية هو غير صحيح، لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة قالوا: إلا أن يكون عقد المزارعة تبعا للمساقاة أي بأن يكون بين الشجر بياض اتفق الطرفان على زراعته ضمن اتفاقهما على عقد المساقاة.
(24) راجع فتح الباري: 7/ 340 و 349
والراجح لدى التأمل في مجموع الأدلة، صحة كل من عقد المساقاة والمزارعة فقد قالوا في بيانه: إن النهي كان في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليست لهم أرض، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار بالتكرم بالمواساة، ويدل له ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال:«كان لرجال من الأنصار فضول أرض، وكانوا يكرونها بالثلث والربع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسكها» ، ثم بعد توسّع حال المسلمين زال الاحتياج فأبيحت لهم المزارعة وأن يتصرف المالك في ملكه كما يشاء. ويدل على ذلك ما وقع من المزارعة والمؤاجرة في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء من بعده.
خامسها: (مشروعية تقبيل القادم والتزامه) ، وهو مما لا نعلم فيه خلافا معتدا به إذا كان قادما من سفر أو طال العهد به، واستدل العلماء في ذلك بتقبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب بين عينيه والتزامه إياه عند قدومه من الحبشة، والحديث رواه أبو داود بسند صحيح، وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت:«قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يجرّ ثوبه، فاعتنقه وقبله» .
ويشكل عليه في الظاهر ما رواه الترمذي أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: «قال رجل:
يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم» .
وجواب الإشكال أن سؤال الرجل في هذا الحديث عن اللقاءات العادية المتكررة بين الرجل وصاحبه، والتقبيل أو الالتزام أمر غير مرغوب فيه في مثل هذه الحال، أما ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك بالنسبة لجعفر وزيد فإنما كان ذلك- كما قد علمت- على أثر قدوم من سفر فالحالتان مختلفتان.
سادسها: (حرمة ربا الفضل في المطعومات)، وهو أن يتبادل اثنان مطعومين من جنس واحد مع تفاضل بينهما. وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحاديث كثيرة صحيحة منها ما رواه مسلم عن عبادة بن الصامت قال:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو استزاد فقد أربى» . ومنها ما رويناه عن البخاري من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مبادلة التمر الجيد بالتمر الرديء مفاضلة.
وليس هذا مجال البحث في الحكمة من تحريم هذا التبادل واعتباره ربا محرما، فمجال ذلك المطولات من كتب الفقه.
ولكن الذي ينبغي التنبيه إليه هنا، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد من يريد أن يستبدل تمرا جيدا
برديء أو غيره من المطعومات بمثله، إلى وسيلة أخرى سائغة لا ربا فيها، وهي أن يبيع الرديء بالدراهم ثم يشتري بها الجيد الذي يبتغيه. ولا يضيره في شيء، إنه إنما يريد أن يتوسل بالبيع، إلى شيء آخر كان محرما في الأصل وأنه لا يقصد البيع لذاته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سوغ ذلك. وإنما المحرم ما قد نهى عنه الكتاب أو نهت عنه السنة نهيا جازما.
والحكم الذي يستنتج من هذا، أنه يجوز التوصل إلى استباحة حكم محرّم بواسطة مشروعة لذلك، ولا يعتبر ذلك حيلة محرمة، فيجوز أن ينكح الرجل امرأة مطلقة بقصد تحليلها لزوجها السابق إذا لم يشترط ذلك في العقد، ويجوز أن يعطي صاحب الدين زكاة ماله للمدين الذي عجز عن إبراء ذمته نحوه، ثم يسترده منه عن دينه.
ولا عبرة لمخالفة ابن القيم في هذا، محتجا بأن الأعمال بمقاصدها، وأن الذي باع، قاصدا شيئا آخر غير ما شرع له البيع، والذي نكح قاصدا غير الذي شرع له النكاح، متلبسان بفعل باطل لأنهما حوّلا الحكم عن غايته إلى غاية أخرى لم يشرع لها ذلك الحكم، نقول لا عبرة لكلامه هذا، لأنه يناقض حديث البخاري الذي ذكرناه مناقضة صريحة والقواعد الفقهية إنما تأتي من وراء النصوص لا من فوقها، ولأن ابن القيم ناقض نفسه مناقضة في منتهى الغرابة والعجب بصدد هذا البحث في كتابه أعلام الموقعين. فقد أطال في ذم تحريم بعض الصور التي سماها حيلا محرمة وأطنب في تفنيد آراء الأئمة القائلين بصحتها، وتوعد بأن لهم مواقف عصيبة بين يدي الله يوم القيامة. ثم ما لبث بعد بضع صفحات أن راح يسوّغها ويضرب المثل بها للحيل الشرعية الصحيحة، وكأنه ليس هو الذي أطنب قبل قليل في تفنيدها والتحذير منها «25» .
*** ثم إن في هذه الغزوة حادثتين، كل منهما ثابت بالحديث الصحيح، تعدان من الخوارق العظيمة التي أيد الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم.
الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم تفل في عين علي رضي الله عنه وقد كان يشتكي منها، فبرأت في الوقت نفسه حتى كأن لم يكن به وجع.
الثانية: ما أوحى الله إليه من أمر الشاة المسمومة عندما أراد الأكل منها. ولأمر ما سبق قضاء الله تعالى فابتلع بشر بن البراء لقمته قبل أن ينطق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها مسمومة، فكان
(25) انظر أعلام الموقعين: 3/ 292 ط التجارية عندما يتحدث عن حيلة التوسل بالخلع لدرء الطلاق قائلا: هذه الحيلة باطلة شرعا.. إلخ ثم انظر 4/ 110 منه، لتجد كيف يسوغ هذه الحيلة ويوجهها بعشرة أوجه من الأدلة المعتبرة عنده. وانظر ما قبل ذلك وبعده لتجد صورا من التناقض العجيب! وإذا أردت التوسع في بحث ما يسمى بالحيل الشرعية وأثر المقاصد في العقود والأحكام، فارجع إلى تفصيل ذلك في كتابي: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية من ص 293 إلى 324