الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلحا، وكان الممثل لقريش في هذا الصلح هو أبو سفيان، وكان الاتفاق والشرط فيه على أنه:
من أغلق بابه فهو آمن، ومن أسلم فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، إلا ستة أنفس هدر دمهم.
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه دخلها عنوة، واستدلوا على ذلك بالطريقة التي دخل بها المسلمون مكة، وبما كانوا يحملونه من السلاح وعدة الحرب.
واتفق الكل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يغنم منها مالا ولم يسب فيها ذرية، فأما من ذهب إلى أنها فتحت صلحا فسبب ذلك واضح، وأما من ذهب إلى أنها فتحت عنوة فقد قالوا إن الذي منع الرسول صلى الله عليه وسلم من قسمتها شيء آخر تمتاز به مكة عن بقية البلاد، فإنها دار النسك ومتعبّد الحق وحرم الرّب تعالى، فكأنه وقف من الله تعالى على العالمين، ولهذا ذهب بعض العلماء ومنهم أبو حنيفة إلى منع بيع أراضي ودور مكة المكرمة «71» .
هذه خلاصة عن بعض الأحكام والعبر التي تؤخذ من أحداث الفتح الكبير لمكة المكرمة، وحسبنا هذا القدر من ذلك والله أعلم.
غزوة حنين
وقد كانت في شوال سنة ثمان من هجرة النّبي صلى الله عليه وسلم.
وسببها أن الله جل جلاله، حينما فتح على رسوله مكة، ودانت له قريش بعد بغيها وعدوانها، مشت أشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض، وقد توغر صدورهم للنصر الذي آتاه الله رسوله والمؤمنين. فحشدوا حشودا كبيرة، وجمع أمرهم مالك بن عوف سيّد هوازن، وأمرهم فجاؤوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم، حتى نزلوا بأوطاس (مكان بين مكة والطائف) ، وإنما أمرهم بذلك حتى يجد كل منهم ما يحبسه عن الفرار، وهو الدفاع عن الأهل والمال والولد! ..
وأجمعوا المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم لست ليال خلون من شوال «72» في اثني عشر ألفا من المسلمين، عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفين من أهل مكة «73» .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ليذهب فيدخل بين المشركين ويقيم فيهم ويعلم أخبارهم ثم يعود بذلك إليه صلى الله عليه وسلم. فانطلق حتى دخل بينهم وطاف بمعسكرهم ثم جاءه بخبرهم.
(71) راجع الأحكام السلطانية: 164، وزاد المعاد لابن القيم: 2/ 174
(72)
طبقات ابن سعد: 4/ 200
(73)
طبقات ابن سعد: 4/ 300، وسيرة ابن هشام.
وكان قد ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن عند صفوان بن أمية أدراعا وأسلحة، فأرسل إليه- وهو يومئذ مشرك- فطلب منه تلك الدروع والأسلحة. فقال صفوان:«أغصبا يا محمد؟! .. قال: بل عارية، وهي مضمونة حتى نؤديها إليك. فأعطاه مئة درع بما يكفيها من السلاح» «74» .
وعلم مالك بن عوف بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فعبأ أصحابه في وادي حنين وانتشروا يكمنون في أنحائه، وأوعز إليهم أن يحملوا على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حملة واحدة.
ووصل المسلمون إلى وادي حنين، فانحدروا فيه في غبش الصبح، فما راعهم إلا الكتائب خرجت إليهم من مضايق الوادي وشعبه وقد حملوا حملة واحدة على المسلمين، فانكشفت الخيول وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على آخر.
وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم نادى في الناس:«إليّ يا عباد الله، أنا النّبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» . روى مسلم عن العباس رضي الله عنه قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ولم نفارقه، وهو على بغلة له بيضاء، فلما التقى المسلمون والكفار ولّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار. قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفّها، إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ناد أصحاب السمرة «75» (وكان رجلا صيّتا) فقلت بأعلى صوتي يا أصحاب السمرة، قال: فو الله لكأنّ عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك، يا لبيك.. وأقبلوا يقتتلون مع الكفار، وكان النداء: يا للأنصار، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى قتالهم قائلا: الآن حمي الوطيس. ثم أخذ حصيّات من الأرض فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا وربّ محمد» «76» .
وقذف الله في قلوب المشركين الرعب، فانهزموا لا يلوي واحد منهم على أحد، واتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، فما رجع الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الغزوة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «من قتل قتيلا له عليه بيّنة فله سلبه» «77» .
فروى ابن إسحاق وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لقد استلب أبو طلحة يوم حنين عشرين رجلا وحده، هو قتلهم.
(74) رواه ابن إسحاق بسند صحيح، ورواه عن طريقه ابن جرير وابن سيّد الناس.
(75)
هي الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية.
(76)
رواه مسلم، وروى نحوه باختصار البخاري أيضا، وترويه بتفصيل كل كتب السيرة.
(77)
متفق عليه.
وروى ابن إسحاق وابن سعد بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التفت فرأى أم سليم بنت ملحان، وكانت مع زوجها أبي طلحة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أم سليم! .. قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك؟ - وكان معها خنجر- فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به» .
وفرّ مالك بن عوف ومن معه من رجالات قومه حتى وصلوا إلى الطائف فامتنعوا بحصنها وقد تركوا وراءهم مغانم كثيرة.
ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدا، قال لأصحابه: قولوا «آيبون، تائبون، عابدون، لربّنا حامدون» ، وقال له بعض الصحابة: يا رسول الله ادع الله على ثقيف، فقال:«اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» «80» .
قلت: وقد هدى الله ثقيفا بعد ذلك بقليل، فقد جاء وفدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة لإعلان إسلامهم.
(78) أخرجه أبو داود وابن ماجه، وروى الشيخان بمعناه، والعسيف: الأجير والعبد.
(79)
متفق عليه.
(80)
رواه ابن سعد في الطبقات، وأخرجه الترمذي في سننه. وقد رواه ابن سعد عن عاصم الكلابي عن الأشهب، عن الحسن.