الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لابدّ منها في حكم الشريعة الإسلامية التي بعث لتبليغها وتطبيقها، ألا وهي مرحلة قتال أولئك الذين بلغتهم الدعوة فوعوها وفهموها، ولكنهم استكبروا عن الإيمان بها والإذعان لها حقدا وعدوانا.
إنها المرحلة التي بها أنجز رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة ربه، وهي المرحلة التي أصبحت- بعمله وقوله- حكما شرعيا باتفاق المسلمين في كل عصر إلى يوم القيامة، وهي المرحلة التي يحاول محترفو الغزو الفكري أن يطمسوا عليها ويغيبوها عن أعين المسلمين، بزعم أن كل ما يتعلق بالجهاد في الشريعة الإسلامية إنما هو قائم على أساس الحرب الدفاعية وردّ العدوان، وها هي ذي هيأة الأمم قامت لتتولى الدفاع وردّ العدوان عن المستضعفين، فلا حاجة إلى استبقاء مبدأ الحرب الدفاعية أيضا.
وليس سرا خافيا أن الأمر الذي يدعوهم إلى هذا الكيد والتضليل في البحث، إنما هو الخوف الشديد لدى الدول الأجنبية- غربيها وشرقيها على السواء- من أن يعود فيستيقظ في نفوس المسلمين معنى الجهاد في سبيل الله، ثم يتصل هذا المعنى بجذوة الإيمان في قلوبهم! .. فلئن تمّ هذا، فسيتم عندئذ لا محالة انهيار الحضارة الغربية مهما تطاول بنيانها.
ولقد نضجت عقلية الرجل الأوروبي لمعانقة الإسلام بمجرد أن يسمع دعوة خالصة إليه، فكيف بالدعوة الخالصة تتلوها تضحية وجهاد؟! ..
حكمة مشروعية هذه المرحلة:
ولعلك تسأل الآن، فما هي الحكمة من أن يساق المشرك أو الملحد إلى الإسلام سوقا؟
وكيف يمكن أن تفهم عقلية القرن العشرين مثل هذه الشرعة؟! ..
والجواب أنا نتساءل: فما الحكمة من أن يحمل الفرد الواحد من الدولة حملا على الخضوع لنظامها وفلسفتها، رغم ما يملكه من الحرية الحقيقية وما يتمتع به من حقيقة المساواة مع غيره من عامة أفراد الدولة حكاما ورعايا؟! ..
إن الإنسان إنما خلق فوق هذه الأرض ليقيم عليها دولة الله تعالى وحكمه فتلك هي حكمة وجوده وهي المعنى المقصود بالخلافة في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
[البقرة 2/ 30] . وفلسفة هذه الدولة قائمة على حقيقة العبودية لله تعالى وحده، ونظامها قائم على الإذعان بأن الحاكمية هي لله وحده، لأنه وحده مالك الإنسان ومالك كل شيء لأنه هو وحده قيوم السموات والأرض.
فكيف يعقل أن يكون لدولة يقوم عليها عبيد مملوكون لله، حق إلزام رعاياهم بالخضوع لما يرونه لهم من النظم والمبادئ والأحكام، ثم لا يكون لخالق هؤلاء كلهم الحق في أن يلزمهم بالخضوع
لسلطانه والتحول عن كل عقيدة ودين إلى دينه؟! .. وإذا كان الإنسان هو خليفة الله تعالى في تطبيق أوامره وأحكامه في الأرض، فهل يكون الإلزام بالخضوع لسلطانه وحكمه إلا بواسطة الإنسان إذ يدخل في دينه ويبايع الله تعالى على بذل النفس والمال في سبيل إقامة الحكم والمجتمع الإسلامي اللذين إنما خلق الإنسان لإقامتهما.
وليس من المهم بعد أن تفهم هذا، أن يكون في القرن العشرين عقول لا تريد أن تستسيغ هذا أو تفهمه، لأن من الطبيعي أن تكون ثمة عقول من هذا النوع، ما دام أن هناك أمشاجا وأخلاطا من الناس يحترفون مهمة الغزو الفكري بغية حقن الشعور الإسلامي في العالم بالحقن المتوالية المخدرة والمنومة. وهم ليسوا مشفقين على الحرية الإنسانية بمقدار ما يتربصون بها.
وليت شعري أي قيمة توجد للحرية عند أولئك الذين يظلون يكذبون على أنفسهم وعلى شعوبهم، إذ يصورون لهم الإسلام بالصور الكاذبة المنفرة، ويصورون لهم المسلمين همجا من الناس لا يزالون يعيشون في البوادي مع الإبل والأنعام، كي يصدوا بذلك تطلعاتهم الفكرية إلى فهم الإسلام ويحبسوا دوافع البحث عندهم ضمن خيوط عنكبوتية حقيرة. حتى لا يطلعوا على حقيقة الإسلام فيؤمنوا به، فتدول بذلك دولة البغي على الإنسان في أتعس أشكاله القذرة.
على أنه ينبغي أن لا يفوتك أن الدعوة السلمية بالحكمة والمناقشة والموعظة الحسنة في كل مجال ومكان، أمر لا بد منه إلى أمد طويل قبل ذلك وحينما ينفذ المسلمون أمر هذه الدعوة على حقيقتها ستزداد يقينا بأن الإسلام دين الفطرة وأن الناس- من أي قوم كانوا- سيجدون في هذا الدين ضالتهم المنشودة. ولن يستمر على التخلف عنه إلا الحاقدون، وذلك أكبر دليل على عدوان مبيت في نفوسهم على الإسلام ودعاته.
كما ينبغي أن لا يفوتك أن أمر هذا الإلزام الذي ذكرناه، إنما هو خاص بالملحدين والمشركين والوثنيين ومن لف لفهم. أما أهل الكتاب فلا يلزمون- كما تعلم- إلا بالخضوع لنظام المجتمع الإسلامي، اعتمادا على أن إيمانهم بالله تعالى مع احتكاكهم بالمسلمين ومعايشتهم له سينبههم إلى جادة الصواب ويحملهم على تقويم العقيدة.
ثم إن في قصة الكتب التي أرسلها صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء دلالات وأحكاما كثيرة نجملها فيما يلي:
أولا: أن الدعوة التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما بعث بها إلى الناس كافة، لا إلى قوم بأعيانهم، وأن رسالته إنما هي إنسانية شاملة ليس لها طابع عنصرية أو قومية أو جماعة معينة، ولذلك اتجه صلى الله عليه وسلم بدعوته يبلغها إلى كل حكام الأرض وملوكها، روي عن أنس رضي الله عنه:
ثانيا: يدلك موقف هرقل مع أتباعه الذين كانوا يزعمون أنهم كانوا على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، على مدى التكبر على الحق والتعنت في الباطل عند كثير من أهل الكتاب، وهم الذين تحول الدين في تصورهم إلى تقاليد وعصبية، فلا ينظرون إليه من حيث إنه حق أو باطل بمقدار ما يتمسكون به من حيث إنه جزء من تقاليدهم ومظهر لعصبيتهم وشخصيتهم وليكن بعد ذلك إذا شاء حقا أو باطلا. ولقد بدى موقف هرقل بادئ الأمر في مظهر المتدبر المقدر لحقائق الأمور، ولكن يبدو أنه كان يسوس بذلك رعيته وحاشيته ويجس نبضهم، ليطمئن إلى ما ينبغي أن يفعله حفظا على ملكه وسلطانه حيال هذا الأمر.
ثالثا: دلّ عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا على مشروعية اتخاذ الخاتم، وكان خاتمه صلى الله عليه وسلم من فضة، كما دلّ على مشروعية نقش اسم صاحبه عليه وقد استدل كثير من العلماء بذلك على استحباب وضع خاتم من فضة في الأصبع التي كان صلى الله عليه وسلم يضع خاتمه فيها، وهي أصبع الخنصر.
رابعا: ويدل أيضا عمله صلى الله عليه وسلم على أنه ينبغي على المسلمين أن يهيئوا للدعوة الإسلامية في كل أرجاء الأرض وسائلها وأسبابها. ومن أهم أسباب ذلك، المعرفة بلغة الأمم والأقوام الذين يقومون بدعوتهم إلى الإسلام، وتعريفهم بمبادئه وأحكامه. فقد رأينا أنه صلى الله عليه وسلم بعث ستة رجال من أصحابه في يوم واحد ليتفرقوا إلى الملوك الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وكان كل واحد منهم يتقن لغة القوم الذين بعثه إليهم.
خامسا: يدل عمله صلى الله عليه وسلم هذا، مع ملاحظة التوقيت الذي جاء فيه على أن على المسلمين أن يقوموا أولا بمسؤولية الدعوة فيما بينهم، وأن يصلحوا من أنفسهم، حتى إذا قطعوا من ذلك شوطا كبيرا وفرغوا من تطبيق نظام الإسلام على حياتهم وسلوكهم، آن لهم حينئذ أن يقوموا بهذا الواجب الثاني. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قادرا أن يرسل عددا من أصحابه إلى هؤلاء الرؤساء والملوك قبل هذا التاريخ بكثير، غير أن ذلك ينطوي على الإخلال بهذا الواجب الذي ذكرناه. وينبغي أن نعلم أن إصلاح المسلمين أنفسهم هو نفسه جزء عظيم من دعوة غيرهم إلى الإسلام، فالناس كانوا ولا يزالون يبحثون عن المثل الصالح في السلوك والخلق، ليقتفوا أثره ويتبعوه. ولو أن المسلمين اليوم كانوا معتزين بإسلامهم مطبقين مبادئه وأحكامه لرأيت ذلك الشعاع الهادي متوغلا بضيائه في مجاهل إفريقيا وأقاصي أوروبا.
هذا وقد كان زمن إرسال هذه الرسائل والكتب، خلال العام السابع للهجرة، كما ذكرنا، أي قبل الفتح، وذلك هو الحين الذي أجمع عليه عامة علماء السيرة. ولا يخلّ بذلك ما دلّ عليه