الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عزّ وجلّ على نبيّه صلى الله عليه وسلم: فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أمّا الله فقد برّأك، فقالت أمي: قومي إليه (أي اشكريه)، فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي. قالت فأنزل الله عز وجل:
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ إلى آخر عشر آيات [النور 24/ 11] .
قالت: وكان أبي ينفق على مسطح لقرابته منه ولفقره، فقال: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى إلى قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور 24/ 22] فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه.
ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله تعالى من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم «61» .
العبر والدلالات:
نأخذ من هذه الغزوة ما يلي:
أولا: مشروعية تقسيم الغنائم بين المقاتلين، بعد استثناء السلب والخمس من الغنيمة، فأما السلب (وهو ما يكون مع المقتول من سلاح ونحوه) فيجوز أن يأخذه القاتل لقوله صلى الله عليه وسلم:«من قتل قتيلا فله سلبه» وأما الخمس فهو لمن ذكرهم الله تعالى في كتابه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال 8/ 41] ، وأما الأخماس الأربعة فتوزع على المقاتلين كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا متفق عليه بين الأئمة في الأموال المنقولة، أما الأرض فقد وقع في أمر تقسيمها خلاف عرضنا له عند الحديث عن أمر بني النضير.
ثانيا: حكم العزل عند الجماع أو (تحديد النسل) .
ويتبع ذلك إسقاط النطفة أو العلقة قبل نفخ الروح فيها، كما يتبع ذلك عموم ما يسمى اليوم بتحديد النسل.
(61) رواه أبو داود وابن ماجه وابن إسحاق وغيرهم.
والحديث الذي ذكرناه في هذا صريح بجواز العزل. فقد قال لهم حينما استفتوه في ذلك:
«ما عليكم أن لا تفعلوا» ، (وفي رواية مسلم: لا عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة) . أي ليس عليكم أن تتركوا العزل، لأن ما قد قدر الله واقع لا ريب فيه، فلا يمكن أن يمتنع المقدر بعملكم. وأصرح من هذا الحديث ما رواه الشيخان عن جابر رضي الله عنه أنه قال:«كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل» .
وقد ذهب جمهور الأئمة بناء على هذا إلى جواز ممارسة العزل، ولكنهم اشترطوا لذلك موافقة الزوجة، لما قد يكون من الضرر بها، غير أنه يكره ذلك إذا كان سببه خشية النفقة وقلة ذات اليد.
وخالف ابن حزم الجمهور، فذهب إلى حرمة العزل مطلقا، مستدلا بما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال:«ذلك الوأد الخفي» ، واستدل بأحاديث أخرى كلها موقوفة على الصحابة. فمن ذلك ما رواه بسنده عن نافع أن ابن عمر كان لا يعزل، وقال:«لو علمت أحدا من ولدي يعزل لنكلته» . ومنه ما رواه من طريق الحجاج بن المنهال أن علي بن أبي طالب كان يكره العزل.
وأجاب ابن حزم عن حديث جابر الذي استدل به الجمهور بأنه منسوخ «62» .
وذكر ابن حجر في فتح الباري رأي ابن حزم هذا ثم قال: «وهذا معارض بحديثين أحدهما أخرجه الترمذي والنسائي وصححه من طريق معمر عن يحيى بن كثير.. عن جابر قال: «كانت لنا جواري وكنا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموؤودة الصغرى، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده» ، قال: والحديث الثاني في النسائي من وجه آخر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة «63» .
أقول: وواضح أن قول النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل: «الوأد الخفي» ، لا يعني التحريم، بل الأظهر أن يحمل كلامه هذا- على ضوء الأحاديث الثابتة الأخرى- على النهي التنزيهي كما ذهب إلى ذلك الجمهور.
ودعوى ابن حزم أن الأحاديث المبيحة للعزل منسوخة، يردّها ما رواه الستة خلا أبا داود من حديث جابر:«كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل» . زاد مسلم: «فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا فلولا أن حكم إباحة العزل ظل مستمرا إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، لما قال جابر رضي الله عنه ذلك، ولأوضح آخر ما استقر عليه الحكم الشرعي» .
(62) انظر المحلى لابن حزم: 10/ 87
(63)
راجع فتح الباري: 9/ 245
وحكم إسقاط النطفة قبل نفخ الروح فيها يتبع ما ذكرنا من حكم العزل. إلا أن بعضا من الجماهير الذين أفتوا بالعزل حرموا الإسقاط، ولعلهم تحرجوا عن القياس في ذلك، واعتبروا المضغة أقرب إلى التخلق والذات الإنسانية من النطفة قبل العلوق، وهو تحرج لا يتضح سببه، اللهم إلا أن يكون مبعث التحرج ضررا صحيا يلحق الحامل بسبب الإسقاط.
إذا علمت هذا، علمت الحكم الشرعي الذي يتعلق بتحديد النسل وهو اتباع وسيلة علاجية لمنع الحمل بدلا من العزل فهو جائز إذا اتبعت له الوسائل التي أجازها جمهور الأئمة، بشرط أن لا يظن فيه أي ضرر للزوجة وبشرط أن يكون ذلك برغبة متفقة من الزوجين، ولست أعلم ما يخالف هذا الحكم عند أحد من أئمتنا الفقهاء رحمهم الله، إلا ما روى من ذلك الحافظ ولي الدين العراقي، عن الشيخ عماد الدين بن يوسف والشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقد روى عنهما القول بحرمة استعمال المرأة دواء ما، من شأنه أن يمنع الحمل قال ابن يونس:«ولو رضي به الزوج» «64» .
أقول وهذا الرأي محجوج بمقتضى دلالة السنة، وبما ذهب إليه بناء على ذلك الجمهور.
غير أن من أهم ما ينبغي أن تعلمه في هذا الصدد، أن الحكم بإباحة العزل أو عموم ما يسمى اليوم، تحديد النسل، منوط برضى كل من الزوجين أنفسهما دون أن يكون عليهما سلطان أو أي توجيه من الخارج. إذ إن ما يجوز ممارسته للفرد صاحب العلاقة، قد لا يجوز تشريعه بشكل إلزامي للجماعة، وهذه قاعدة من القواعد الفقهية المتفق عليها.
فالطلاق مما يجوز للفرد المتزوج ممارسته عند الحاجة أو المصلحة التي يراها. ولكن ليس للحاكم أن يأمر الناس، أمرا إلزاميا أو أدبيا أو توجيها، بأن يمارسوا هذا الحق، فيطلقوا زوجاتهم. وتحديد النسل، شأنه في ذلك شأن الطلاق تماما. وهذه القاعدة الهامة لا بد من أن تعيها وتفهمها جيدا، كي لا يلبّس عليك أحد ممن يحترفون اليوم صناعة الفتوى قائلين:«لقد أباحت السنة تحديد النسل» ، وهذا دليل على أن للدولة أن تحمل الناس- بما تراه من السبل- على ذلك.
والحقيقة أنه لا علاقة إطلاقا بين ذلك الدليل وهذا المدلول إلا علاقة التلبيس والتمويه.
فالخلاصة، أن أمر العزل أو تحديد النسل، إذا نظر إليه من حيث علاقة الزوجين ببعضهما وما يشيع بينهما من حقوق ويجمعهما من مصالح، أمر سهل لا مشكلة فيه كما قد رأيت.
ولكنه إذا نظر إليه، على أساس أن يكون مبدأ يدعى إليه عامة ويغرى الناس به بناء على فلسفة توجيهية تنشط وسائل الإعلام والتوجيه في بثها، فإنه يغدو حينئذ أمرا على جانب كبير
(64) انظر طرح التثريب وشرحه للحافظ العراقي: 8/ 62
من الأهمية والخطورة وهو يستدعي حينئذ من المسلمين أن ينشطوا في محاربته محاربة واعية فعالة، تقوم على أساس فهم الخطط الماكرة المختلفة التي يبيتها أعداء المسلمين للإجهاز عليهم.
وعليهم أن لا ينخدعوا بما يشاع من مشكلات الإنتاج والاقتصاد فذلك جزء من التخطيط نفسه.
ثالثا: تدلنا معالجة النبي صلى الله عليه وسلم للمشكلة التي استغلها عبد الله بن أبيّ بن سلول، بالشكل الذي رأيناه، على مدى ما قد آتاه الله من براعة فائقة في سياسة الأمور وتربية الناس والتغلب على مشاكلهم. لقد كان ما سمعه صلى الله عليه وسلم من كلام ابن سلول مسوغا كافيا لأن يأمر بقتله بحسب الظاهر، ولكنه صلى الله عليه وسلم استقبل الأمر بصدر أرحب من ذلك، وسمع عن اللغط الذي جرى، والتناوش الذي وقع، والجيش فيه عدد كبير من المنافقين الذين يبحثون عن شيء مثل هذا ليقوموا ويقعدوا به، فلم يعالج الأمر بعاطفة متأثرة، وإنما ترك الحكمة وحدها هي التي تدبر. فكان أن أمر القوم بالمسير في وقت لم يكونوا يعتادونه، حتى يشغلهم السير عن الاجتماع على المحادثة والكلام. وظل يسير بهم بقية اليوم والليل كله وصدرا من اليوم الثاني، لا يدع لهم مجالا يفرغ فيه المنافقون للخوض فيما يريدون من باطل، فلما انحطوا بعد ذلك على الأرض لم يدع لهم التعب فرصة الحديث عن شيء، وذهب الجميع في سبات عميق.
وانتظر الناس أن يجدوا من الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا وصل إلى المدينة، شدة على المنافقين لا ريب أنها تتجلى في قتل عبد الله بن أبيّ بن سلول، فلذلك جاء إليه ابنه عبد الله رضي الله عنه يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتولى هو قتل أبيه إذا كان يريد أن يحكم بذلك، ولكنه فوجئ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يكن متوقعا حينما قال:«بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» .
وانظر إلى تعليل ذلك فيما قاله لعمر رضي الله عنه: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟» .
ولقد كان من نتيجة هذه الحكمة أن انحسر عن عبد الله بن أبيّ قومه فكانوا هم الذين يعنّفونه ويفضحون أمره إذا ما أراد أن يحدث شيئا، وأنت خبير أن المنافق يعتبر في الأحكام القضائية الدنيوية مسلما مع وجوب الحيطة والحذر منه.
وقبل أن تستغرق في التأمل فيما كان يتصف به صلى الله عليه وسلم من البراعة في الحكمة والسياسة وتدبير الأمور، ينبغي أن أذكرك مرة أخرى، بأن كل هذه الصفات إنما تأتي من وراء صفة النبوة فيه، فهي كلها متفرعة عن كونه نبيا ورسولا إلى الناس، ومن الخطأ الفادح أن يعمد باحث فيحلل مثل هذه الصفات في حياته صلى الله عليه وسلم، دون أن يربطها بمصدرها الأساسي الأول، وهو نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم. وتلك خطة- كما بيّنا ذلك سابقا- يختارها محترفو الغزو الفكري لشغل المسلمين
عن التأمل بنبوته عليه الصلاة والسلام، ويتلقفها منهم أولئك الذين فاقوا حتى القردة في إتقان فن التقليد الأعمى.
رابعا: وأما قصة الإفك، فإنها حلقة فريدة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعداء الدين. ولقد كانت هذه الأذيّة أشد في وقعها على نفسه صلى الله عليه وسلم من كل تلك المحن السابقة، وتلك هي طبيعة الشر الذي يصدر من المنافقين، فهو دائما يكون أقسى من غيره وأبلغ في المكيدة والضرر، إذ تكون الفرص والأسباب خاضعة لهم أكثر من غيرهم. وخبر الإفك صورة فريدة للأذى الذي تفرد به المنافقون.
وإنما كانت هذه القصة أبلغ من غيرها في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، لأن كل ما كان قد كابده قبل ذلك من المحن التي تحدثنا عن طرف منها، أمور كان يتوقعها، وقد وطن نفسه لقبولها وتحملها، بل كان منها على ميعاد في طريق الدعوة، أما هذه فقد فوجئ بها.. لأنها ليس مما قد اعتاده، أو توقعه. إنها اليوم شيء آخر.. إنها شائعة، لو صحت لكانت طعنة نجلاء في أخص ما يعتز به، إنسان، أخصّ ما يتصف به الشرف والكرامة، وما الذي أدراه أنها شائعة صحيحة أو باطلة؟! ..
من هنا كانت هذه الأذية أبلغ في تأثيرها من كل ما عداها، لأنها جاءت لتلقي بشعوره النفساني في اضطراب مثير لا مناص منه. ومع ذلك فلو أن الوحي سارع إلى كشف الحقيقة وفضح إفك المنافقين لكان في ذلك مخلص من هذا الاضطراب والشكوك المثيرة، ولكن الوحي تلبث أكثر من شهر لا يعلّق على ذلك، فكان ذلك مصدرا آخر للقلق والشكوك.
ومع ذلك فإن محنة الإفك هذه، جاءت منطوية على حكمة إلهية اتجهت إلى إبراز شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وإظهارها صافية مميزة عن كل ما قد يلتبس بها. إن معنى النبوة في حياته صلى الله عليه وسلم كان من المحتمل أن يبقى مشوبا، في وهم بعض المؤمنين به، والكافرين، على السواء، لو لم تأت حادثة الإفك هذه لتهز شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، هزا قويا يفصل إنسانيته العادية عن معنى النبوة الصافية فيه، ثم لتجلي معنى النبوة والوحي تجلية تامة أمام الأنظار والأفكار، حتى لا يبقى أي مجال التباس بينه وبين أي معنى من المعاني النفسية أو الشعورية الأخرى.
لقد فاجأت هذه الشائعة سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في طور من إنسانيته العادية، يتصرف ويتأمل ويفكر كأي أحد من الناس ضمن حدود العصمة المعروفة للأنبياء والمرسلين، فاستقبلها كما يستقبل مثلها أي بشر من الناس، ليس له اطلاع على غيب مكنون ولا ضمير مجهول، ولا على قصد ملفّق كاذب. فاضطرب كما يضطربون، وشك كما يشكون، وأخذ يقلّب الرأي على وجوهه، ويستنجد في ذلك بمشورة أولي الرأي من أصحابه.
وكان من مقتضى الحكمة الإلهية في إبراز هذا الجانب الإنساني المجرد فيه صلى الله عليه وسلم، أن يتأخر
الوحي كل هذه الفترة التي تأخرها، كي تتجلى للناس حقيقتان، كل منهما على غاية من الأهمية:
أما الحقيقة الأولى، فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج بنبوته ورسالته عن كونه بشرا من الناس، فلا ينبغي لمن آمن به أن يتصور أن النبوة قد تجاوزت به حدود البشرية، فينسب إليه من الأمور أو التأثير في الأشياء ما لا يجوز نسبته إلا لله وحده.
وأما الحقيقة الثانية، فهي أن الوحي الإلهي ليس شعورا نفسيا ينبثق من كيان النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه ليس شيئا خاضعا لإرادته أو تطلعه وأمنياته. إذ لو كان كذلك، لكان من السهل عليه أن ينهي هذه المشكلة من يوم ميلادها ويريح نفسه من ذيولها ونتائجها، ويجعل مما يعتقد من الخير والاستقامة في أهله قرآنا يطمئن به أصحابه المؤمنين، ويسكت الآخرين من أصحاب الفضول.
ولكنه لم يفعل، لأنه لا يملك ذلك.
ولننقل لك ما يقوله في بيان هذه الحقيقة الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) يقول: «ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضي الله عنها، وأبطأ الوحي وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: «إني لا أعلم عنها إلا خيرا» ثم إنه بعد أن بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب ومضى شهر بأكمله والكل يقولون: «ما علمنا عليها من سوء» ، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر:«يا عائشة أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله» .
هذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما ترى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصديق المتثبت الذي لا يتبع الظن ولا يقول ما ليس له به علم، على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنا براءتها ومصدرا الحكم المبرم بشرفها وطهارتها.
فماذا كان يمنعه- لو أن أمر القرآن إليه- أن يتقول هذه الكلمات الحاسمة من قبل ليحمي بها عرضه ويذبّ بها عن عرينه وينسبها إلى الوحي السماوي، لتنقطع ألسة المتخرّصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «65» [الحاقة 69/ 44- 47] .
ولقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها، أول من تجلّت لها هاتان الحقيقتان، حتى ذهبت في توحيدها وعبوديتها لله وحده مذهبا أنساها ما سواه ومن سواه، فلذلك أجابت أمّها حينما طلبت إليها أن تقوم فتشكر النبي صلى الله عليه وسلم قائلة:«لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي» .
(65) النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز: ص 17
إن هذا الكلام من السيدة عائشة قد يبدو وكأن فيه شيئا من عدم اللباقة تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، غير أن الظرف والحالة، هما اللذان أمليا عليها هذا الكلام، فهي إنما انساقت بوحي الحالة التي كونتها الحكمة الإلهية تثبيتا لعقيدة المؤمنين، وقطعا لإفك المنافقين والملحدين، وإظهارا لمعنى التوحيد والعبودية الشاملة لله وحده.
وهكذا فقد انطوت قصة الإفك على حكمة إلهية باهرة استهدفت تثبيت العقيدة الإسلامية، وردّ ما قد يعرض من شبه عليها، وتلك هي الخيرية التي عبر الله عنها بقوله: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور 24/ 11] .
خامسا: في قصة الإفك هذه، ما يدلنا على مشروعية حد القذف. فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأولئك الذين تفوّهوا بصريح القذف، فضربوا حد القذف وهو ثمانون جلدة. وليس في هذا من إشكال.
إنما الإشكال في أن ينجو من الحد الذي تولى كبر هذه الشائعة وتسييرها بين الناس، وهو عبد الله بن أبيّ بن سلول، والسبب، كما قال ابن القيم: أنه كان يعالج الحديث من الإفك بين الناس بخبث، فكان يستوشي الكلام فيه ويجمعه ويحكيه في قوالب من لا ينسب إليه «66» . وأنت خبير أن حد القذف إنما يقع على من يتفوّه به بصريح القول.
هذا ولنختم الحديث عن قصة الإفك ودروسها، بذكر الآيات العشرة التي نزلت ببراءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإدانة المنافقين والخاطئين.
يقول الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً، وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ، لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [النور 24/ 11- 20] .
(66) راجع زاد المعاد لابن القيم: 2/ 115