المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

كفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، ولما أدرج في أكفانه، وضع على سريره على شفير القبر ثم دخل الناس أرسالا يصلون عليه فوجا فوجا لا يؤمهم أحد، فأولهم صلاة عليه العباس ثم بنو هاشم ثم المهاجرون ثم الأنصار، ثم سائر الناس. ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه الذي توفي فيه في حجرة عائشة.

توفي عليه الصلاة والسلام عن تسع من النساء هن: سودة، وعائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وجويرية، وصفية، وميمونة، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا غير عائشة رضي الله عنها.

له صلى الله عليه وسلم ثلاثة بنين: القاسم (وبه يكنى) ولد قبل النبوة وتوفي وهو ابن سنتين، وعبد الله وسمي الطيب والطاهر، ولد بعد النبوة، وإبراهيم ولد بالمدينة سنة ثمان ومات بها سنة عشر.

وكان له أربع بنات: زينب، وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم. وكان وفاة رقية يوم بدر في رمضان سنة اثنين من الهجرة، وتوفيت أم كلثوم في شعبان سنة تسع من الهجرة وكلتاهما كانتا عند عثمان بن عفان رضي الله عنه.

كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان أحسنهم خلقا وخلقا، وألينهم كفا وأطيبهم ريحا، وأحسنهم عشرة، وأشدهم لله خشية. لا يغضب لنفسه ولا ينتقم لها وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله فلا يقوم لغضبه شيء حتى ينتصر للحق. وكان خلقه القرآن، وكان أكثر الناس تواضعا يقضي حاجة أهله ويخفض جناحه للضعفة، وكان من أشد الناس حياء، وما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، ولا يأكل متكئا ولا على خوان، وكان يحب الحلواء والعسل ويعجبه الدبّاء (اليقطين) . وكان يأتي الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار. وكان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. وكان يخصف النعل ويرقع الثوب ويعود المريض ويجيب من دعاه من غني وفقير. كان فراشه من أدم حشوه ليف، وكان متقللا من أمتعة الدنيا كلها، وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض كلها فأبى أن يأخذها واختار الآخرة عليها. وكان كثير الذكر دائم الفكر، جلّ ضحكه التبسم، وكان يمزح ولا يقول إلا حقا.

ص: 346

وكان يتألف أصحابه ويكرم كريم كل قوم ويولّيه أمرهم. ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحته، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط أفّ.

ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا؟» .

واعلم أن زيارة مسجده وقبره صلى الله عليه وسلم، من أعظم القربات إلى الله عز وجل، أجمع على ذلك جماهير المسلمين في كل عصر إلى يومنا هذا. لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية غفر الله له، فقد ذهب إلى أنّ زيارة قبره صلى الله عليه وسلم غير مشروعة. ودليل ما أجمع عليه المسلمين من دونه عدة وجوه:

الوجه الأول: مشروعية زيارة القبور عموما واستحبابها، وقد ذكرنا فيما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب كل ليلة إلى البقيع يسلّم على أهله ويدعو ويستغفر لهم، ثبت ذلك في الصحيح. والأحاديث الثابتة في تفصيل ذلك كثيرة. ومعلوم أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في عموم القبور فيسري عليه حكمها.

الوجه الثاني: ما ثبت من إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على زيارة قبره صلى الله عليه وسلم والسلام عليه كلما مروا على الروضة الشريفة، روى ذلك الأئمة الأعلام وجماهير العلماء بمن فيهم ابن تيمية رحمه الله.

الوجه الثالث: ما ثبت من زيارة كثير من الصحابة قبره صلى الله عليه وسلم، منهم بلال رضي الله عنه رواه ابن عساكر بإسناد جيد، وابن عمر فيما رواه مالك في الموطأ وأبو أيوب فيما رواه أحمد، دون أن يؤثر عنهم أو عن أحد منهم أي استنكار أو نقد لذلك.

الوجه الرابع: ما رواه أحمد رضي الله عنه بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج يودع معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري» ، فكلمة (لعل) تأتي في أعمّ الأحوال للرجاء، وإذا دخلت (أن) على خبرها تمخضت للعرض والرجاء. فالجملة تنطوي بصريح البيان على توصية معاذ بأن يعرج عند رجوعه إلى المدينة على مسجده صلى الله عليه وسلم وقبره ليسلم عليه «1» .

إذا تبين هذا، فاعلم أنه لا وجه لما انفرد به ابن تيمية رحمه الله من دفع هذه الأوجه كلها في غير ما دافع والقول بأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم عمل غير مشروع! ..

(1) هنالك أيضا طائفة من الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في فضل زيارة قبره، لا يخلو معظمها من ضعف أو لين. وهي وإن كانت ترتقي في مجموعها إلى درجة القوة، فقد آثرنا أن لا نسوقها مع هذه الدلائل التي ذكرناها حتى لا يتعلق المخالفون بما قد يطيب لهم التعلق به من لين أو ضعف فيها، فيجدوا بذلك منفذا للانتصار لرأي ابن تيمية على ما فيه من شذوذ.

ص: 347

وجملة ما اعتمده ابن تيمية في ذلك، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» ، وقوله:«لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وقوله:«لا تجعلوا قبري عيدا» .

وليس في شيء من هذه الأحاديث الثلاثة ما يصلح أن يكون مستندا لما انفرد به.

1-

فقوله عليه الصلاة والسلام: لا تشد الرحال.. إلخ استثناء مفرغ كما هو معلوم والمستثنى منه محذوف، وإنما يقدر المستثنى من جنس المستثنى منه، وإلا كان استثناء منقطعا، وهو استثناء مجازي، ولا يجوز إضمار المجاز إلّا عند الضرورة التي لا تصلح معها الحقيقة.

فتقدير الحديث: لا تشد الرحال إلى المساجد إلا إلى ثلاثة منها.. إلخ فالمستثنى منه هو المساجد، والمعنى أن جميع المساجد في الفضل سواء، إلا هذه المساجد الثلاثة، فلا وجه لتفضيل بعضها على البعض في زيارة أو اعتكاف أو نحو ذلك. وعملا بهذا الحديث قال الفقهاء: إنه لو نذر الاعتكاف وسمى مسجدا معينا غير هذه المساجد الثلاثة، لم يجب عليه قصد ذلك المسجد بخصوصه ولم يسنّ، بل يغنيه أن يعتكف في أي مسجد من مساجد الدنيا.

أما حديثنا فهو عن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ليس داخلا لا في المستثنى ولا في المستثنى منه، فالحديث بمعزل عن أي إشارة إليه، وهو كما لو قلت: لا يجوز أن تشد الرحال إلى زيارة الأرحام أو إلى العلماء لنتعلم منهم، لحديث لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد..

إلخ!! ..

ثم إننا نسأل بعد هذا: أفيفهم ابن تيمية من كلمة (شدّ الرحال) معناها الحقيقي، أم المعنى المجازي الذي هو القصد والعزم على الشيء؟

فإن كان يفهم منها المعنى الحقيقي، فينبغي ألا تحرم زيارة غير هذه المساجد الثلاثة من المساجد الأخرى إلّا إذا شدّ لذلك رحلا ثم مضى إليه بواسطة الرحل، قربت المسافة أو بعدت، فإن سعى إليه بوسيلة أخرى غير شدّ الرحال لم يعد ذلك حراما، وهل يقول عاقل بذلك؟

وإن كان يفهم من الكلمة معناها المجازي- وإنما المعنى المجازي لها هو الاتجاه إلى الشيء لا يقصد غيره- فإن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارضه ويرده. فقد كان صلوات الله عليه يزور مسجد قباء في كل أسبوع، وفي رواية كل يوم سبت، وقد كان مسجد قباء خارج المدينة.

والخلاصة، أن المستثنى منه في الحديث هو المساجد، وزيارة الأرحام والقبور والأشخاص والمعالم غير داخلة في المستثنى منه، فلا شأن للحديث بها. ومعنى الحديث: إن أولى المساجد بالاهتمام للتوجه إليها من مسافات بعيدة هذه المساجد الثلاثة.

2-

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» لا شأن له بموضوع الزيارة

ص: 348

إطلاقا. إذ هو نهي عن اتخاذ قبور الأنبياء وما حولها مصلى على نحو ما مرّ بيانه قريبا، تعلم هذا من قوله (مساجد) إذ المساجد أماكن الصلاة. ولو استقام أن يكون مجرد زيارة القبر اتخاذا له مسجدا، لكان من مقتضى ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل من البقيع كله مسجدا له، إذ كان يزوره دائما.

3-

أما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا قبري عيدا» ، فإنما معناه لا تتخذوا لزيارة قبري وقتا معينا لا يزار إلا فيه كما هو شأن العيد، كما فسره بذلك الحافظ المنذري وغيره من علماء الحديث، ولا مانع أن يضاف إليه أيضا النهي عن إظهار الصخب واللهو ومظاهر الزينة عنده على نحو ما يكون في الأعياد. أما أن تدل الكلمة على النهي عن زيارة قبره، فإنها عن ذلك بمعزل وما كان النبي صلى الله عليه وسلم لينهى الناس عن اتخاذ قبره عيدا بهذا المعنى المزعوم ثم يعمد هو فيتخذ من البقيع في كل يوم عيدا! ..

ثم اعلم أن لزيارة قبره آدابا لابدّ من اتباعها، فإذا أكرمك الله تعالى بالتوجه إلى زيارته، فاعقد العزم أولا على زيارة مسجده ثم انو مع ذلك زيارة قبره الشريف. ثم اغتسل قبيل دخولك المدينة، والبس أنظف ثيابك، واستحضر في قلبك شرف المدينة وأنك في البقعة التي شرّفها الله بخير الخلائق. فإذا دخلت المسجد فاقصد الروضة الكريمة، وصلّ ركعتي تحية المسجد ما بين القبر والمنبر. فإذا دنوت إلى القبر الشريف بعد ذلك، فإياك أن تهجم عليه أو تلتصق بالشبابيك أو تتمسح بها كما يفعل كثير من الجهال، فتلك بدعة توشك أن تكون محرمة. بل قف بعيدا عن القبر نحو أربعة أذرع ناظرا إلى أسفل ما يستقبلك من جدار القبر، وأنت غاضّ الطرف تستشعر الهيبة والإجلال، ثم سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت خفيض قائلا:«أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلغت رسالة ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين فصلى الله عليك وعلى آلك وأصحابك كثيرا كما يحبّ ربنا ويرضى» .

ثم استقبل القبلة وانحرف إلى اليمين قليلا حتى تكون بين القبر والأسطوانة التي عند أول القبر وارفع كفيك بدعاء خاشع إلى الله جل جلاله، ولا تتوهم أن في هذا سوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الدعاء ينبغي أن يكون مع استقبال القبر، فإن الدعاء خطاب لله عز وجل والخطاب لله لا يجوز أن يشرك فيه غيره. وخير اتجاه إلى الله عز وجل لدعائه هو اتجاه القبلة، ولا تلتفت إلى كثرة من قد تراهم يخالفون هذا من الجهال والمبتدعين. وابدأ دعاءك قائلا: اللهم إنك قلت وقولك الحق: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء 4/ 64] ، وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا برسولك إليك،

ص: 349

فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته. ثم أكثر من الدعاء لما تشاء من أمر دينك ودنياك ولإخوانك وعامة المسلمين.

ولا تنس يا أخي أن تخصّني أنا أيضا بشيء من دعائك، قل:«اللهم إذا جمعت الأولين والآخرين لليوم الذي لا ريب فيه فأسبل جميل سترك على عبدك المذنب محمد سعيد بن ملا رمضان وأدخله بمحض منّك وفضلك في عبادك المغفورين، وامنحه شربة هنيئة من حوض نبيك محمد صلى الله عليه وسلم يوم يقف عليه مشرق الوجه باسم المحيا يستقبل أصحابه الذين عرفهم وإخوانه الذين لم يرهم واشتاق إليهم، ولا تجعله من المطرودين أو المحرومين» .

عهد يسألك الله عنه يا أخي المسلم أيا كنت، أن تدعو لأخيك عند ختمك لهذا الكتاب. فما أحوجني إلى دعاء خالص من أخ لي في ظهر الغيب.

وأحمد الله تعالى وأشكره على توفيقه لتتميم هذا الكتاب، وأتضرع إليه سبحانه وتعالى أن يرزقني حسن التمسك بسنة حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأسأله سبحانه أن يتجاوز بالصفح عما قد أكون تلبست به في هذا الكتاب من زلات وأخطاء وأن يجعل شفيعي في ذلك سلامة القصد وبذل الجهد، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأميّ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 350