المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «إنني أتولى الله - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «إنني أتولى الله

رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «إنني أتولى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم» .

ففيهما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [المائدة 5/ 51- 52] .

‌العبر والعظات:

هذه الواقعة تدل في جملتها، على مدى ما ركب في اليهود من طبيعة الغدر والخيانة، فلا تروق لهم الحياة مع من يجاورونهم أو يخالطونهم إلا بأن يبيتوا لهم شرّا أو يحيكوا لهم غدرا، وهم على أتمّ الاستعداد لأن يخلقوا جميع الوسائل والأسباب لذلك. ولدى دراستنا التفصيلية لهذه الحادثة نخرج بدروس ومبادئ نجملها فيما يلي:

أولا: (حجاب المرأة المسلمة) ، لقد رأينا أن مصدر الحادثة هو إرادة اليهود المرأة العربية المسلمة على كشف وجهها، وذلك حينما دخلت في سوقهم لأمر يخصها.. ولا تنافي بين هذا السبب الذي رواه ابن هشام والسبب الآخر الذي رواه بقية رواة السيرة، من حقدهم على المسلمين عقب انتصارهم في غزوة بدر وقولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أنّا نحن الناس» ، فالأغلب أن السببين واقعان معا وكل منهما يتمم الآخر، إذ من البعيد أن ينبذ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدهم لمجرد ظهور بوادر الضغينة على وجوههم وفي كلماتهم، بل لابد أنهم قد تصرفوا مع ذلك تصرفا أساؤوا فيه إلى المسلمين على نحو ما رواه ابن هشام.

وهو يدل على أن الحجاب الذي شرعه الإسلام للمرأة سابغ للوجه أيضا، وإلا لم يكن هنالك أي حاجة إلى أن تسير هذه المرأة في الطريق ساترة وجهها، ولو لم يكن سترها لوجهها تحقيقا لحكم ديني يأمرها بذلك، لما وجد اليهود ما يدفعهم إلى ما صنعوا، لأنهم إنما أرادوا من ذلك مغايظة شعورها الديني الذي كان يبدو جليا في مظهرها.

وقد يقال: إن في هذه القصة التي تفرد بروايتها ابن هشام بعض اللين، فلا تقوى على الدلالة على مثل هذا الحكم، إلا أنه يشهد لها أحاديث كثيرة أخرى ثابتة لا مجال للطعن فيها.

فمن ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، في باب ما يلبس المحرم من الثياب.

قالت: «لا تلثّم- أي المرأة- ولا تتبرقع ولا تلبس ثوبا بورس ولا زعفران» . ومثله ما رواه مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: «لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس

ص: 168

القفازين» «16» . فما معنى نهي المرأة عن أن تتبرقع أو تنتقب أثناء الإحرام بالحج، ولماذا كان هذا النهي خاصا بالمرأة دون الرجل؟ لا شك أن النهي فرع عما كانت تفعله المرأة المسلمة إذ ذاك من الانتقاب وإسدال البرقع على وجهها، فاقتضى الحكم استثناء ذلك في الحج.

ومنه ما رواه مسلم وغيره من حديث فاطمة بنت قيس أنها لما طلقها زوجها، فبت طلاقها، أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتدّ في بيت أم شريك، ثم أرسل إليها أن بيت أم شريك يغشاه أصحابي (أي أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم، فإنه ضرير البصر وإنك إذا وضعت خمارك لم يرك.

هذا من حيث ما ورد من الأدلة على وجوب ستر المرأة وجهها وبقية جسمها عن الرجال الأجانب.

أما من حيث الدليل على حرمة نظر الرجل إلى ذلك منها، فقد وردت بذلك أحاديث كثيرة أيضا.

فمن ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن بريرة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:

«يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة» ، ومن ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس أن النّبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه- وفيه قصة المرأة الخثعمية الوضيئة- فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ النّبي صلى الله عليه وسلم بذقن الفضل فحوّل وجهه عن النظر إليها.

فأنت ترى أنه قد اجتمع في هذه الأحاديث نهيان: نهي المرأة عن كشف وجهها أو شيء مما سواه أمام الأجانب، ونهي الرجل عن النظر إلى ذلك منها. وفي ذلك دلالة وافية متكاملة على أن وجه المرأة عورة في حق الأجانب عنها إلا في حالات خاصة مستثناة كضرورة التطبب والتعلم والشهادة ونحو ذلك.

على أن من أئمة المذاهب من ذهب إلى أن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة، فلا يجب سترهما وحملوا ما سبق من الأحاديث الدالة على خلاف ذلك على الندب دون الوجوب، غير أن الجميع اتفقوا على أنه لا يجوز النظر إلى شيء من جسم المرأة بشهوة، وعلى أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها إذا عمّ الفسق وأصبح أكثر الذين ينظرون إليها فسّاقا يتأملونها بنظرات محرمة.

وإذا تأملت في حال المسلمين اليوم وما عمّ فيه من الفسق والفجور وسوء التربية والأخلاق، علمت أنه لا مجال للقول بجواز كشف المرأة وجهها والحالة هذه. إن هذا المنحدر الخطير الذي يسير فيه المجتمع الإسلامي اليوم يقتضي- لضمان السلامة والحفظ- مزيدا من الحذر في السير ومزيدا من

(16) البخاري: 3/ 146، والموطأ: 1/ 328

ص: 169

التشدد في أسباب الحيطة ريثما يتجاوز المسلمون مرحلة الخطر ويصبحون قادرين على امتلاك أمرهم وضبط أزمتهم بأيديهم.

وبعبارة موجزة نقول: إن من شأن اتباع الرخص والتسهيلات الدينية، أن تصبح منزلقا، تحت أقدام أصحابها، إلى التحلل العام عن أصل الواجبات، ما لم يوجد تيار اجتماعي ديني سليم يضبط تلك الرخص ضمن منهج إسلامي عام ويحفظها عن أن تشتط وتتجاوز الحدود المشروعة.

ومن عجيب أمر بعض الناس أنهم، يتعلقون بهذا الذي يسمونه: تبدل الأحكام بتبدل الأزمان في مجال التخفيف والتسهيل والسير مع مقتضيات التحلل من الواجبات فقط، ولكنهم لا يتذكرون هذه القاعدة إطلاقا عندما يقتضيهم الأمر عكس ذلك، وأنا فلست أجد مثالا تتجلى فيه ضرورة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان مثل ضرورة القول بوجوب ستر المرأة وجهها نظرا لمقتضيات الزمن الذي نحن فيه، ونظرا لما تكاثر فيه من المنزلقات التي تستوجب مزيدا من الحذر في السير وتبصر مواقع الأقدام ريثما يهيئ الله للمسلمين مجتمعهم الإسلامي المنشود.

ثانيا: هذه الحادثة التي صدرت من يهود قينقاع، تدل على حقد دفين في صدورهم على المسلمين. ولكن لماذا تأخرت دلائل هذا الحقد في الظهور والانكشاف خلال ثلاث سنين من الزمن استطاع اليهود خلالها أن يكظموا حقدهم ويبطنوا كيدهم؟

والجواب: أن الذي ألهب مشاعرهم وأثار الحقد الدفين في نفوسهم إنما هو ما وجدوه من انتصار المسلمين في بدر، وهو أمر لم يكونوا يتوقعونه بحال، فضاقت صدورهم بما احتوته من الغيظ والأحقاد ولم يجدوا إلا أن ينفسوا عنها بمثل هذا الذي أقدموا عليه، بل إن حقدهم على المسلمين تجلّى صراحة فيما رويناه من كلامهم وتعليقاتهم على انتصار المسلمين في غزوة بدر:

روى ابن جرير أن مالك بن الصيف- أحد يهود المدينة- قال لبعض المسلمين عند رجوعهم من بدر:

«أغرّكم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال؟ أما لو أسررنا نحن العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يد على قتالنا»

ولو أن اليهود احترموا ما بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق، لما وجدوا من المسلمين من يسيء إليهم بكلمة أو يزعجهم في مسكن أو مقام، ولكنهم أبوا إلا شرّا، فكان مردّ الشرّ على نفوسهم.

ثالثا- (معاملة المنافق في الإسلام) : - هذه الحادثة وما أعقبها من دفاع عبد الله بن أبي عن اليهود بالشكل الذي رأيناه، لا تكاد تخفي من أمر نفاق هذا الرجل شيئا. فقد اتضح من موقفه ذاك أنه كان يصطنع الإسلام نفاقا، وأنه في أعماق قلبه إنما يضمر شرّا بالإسلام وأهله.

ص: 170

غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عامله مع ذلك كله على أنه مسلم، فلم يخفر ذمته، ولم يعامله معاملة المشرك أو المرتد أو الكاذب في إسلامه، وأجابه إلى ما أصرّ وألحّ في طلبه.

وذلك يدل- كما أجمع العلماء- على أن المنافق إنما يعامل في الدنيا من قبل المسلمين على أنه مسلم، يعامل كذلك، وإن كان نفاقه مقطوعا به. وسبب ذلك أن الأحكام الإسلامية في مجموعها تتكون من جانبين: جانب يطبق في الدنيا ويكلف المسلمون بتطبيقه على مجتمعاتهم وفيما بينهم، ويشرف على ذلك الخليفة أو رئيس الدولة، وجانب آخر يطبق في الآخرة ويكون أمره عائدا إلى الله تعالى.

فأما الجانب الأول، فيقوم أمره على الأدلة القضائية المادية والمحسوسة بحيث لا يترتب شيء من نتائج الأحكام إلا بموجبها، فليس للأدلة الوجدانية والقرائن الاستنتاجية أي أثر في هذا الجانب.

وأما الجانب الثاني، فيقوم على ما استقرّ في القلوب واستكنّ في الصدور ومردّ القضاء في ذلك إلى الله تعالى. ولبيان هذه القاعدة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه:«إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم» . ويقول فيما رواه الشيخان: «إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما هو قطعة من النار» .

والحكمة من مشروعية هذه القاعدة، أن تظلّ العدالة بين الناس في مأمن من التلاعب بها والنيل منها إذ ربما اتّخذ بعض الحكام من حجية الأدلة الوجدانية والاستنتاجية وحدها ذريعة إلى الإضرار ببعض الناس بدون حق.

وتطبيقا لهذه القاعدة الشرعية، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرغم من اطّلاعه على كثير من أحوال المنافقين وما تسرّه أفئدتهم، بوحي من الله تعالى، يعاملهم معاملة المسلمين دون أي تفريق في الأحكام الشرعية العامة.

وهذا لا ينافي أن يكون المسلمون في حذر دائم من المنافقين، وأن يكونوا في يقظة تامة أمام تصرفاتهم، فذلك من الواجبات البدهية على المسلمين في كل ظرف ووقت.

رابعا: (ولاية غير المسلمين) : وإذا تأملنا في النتيجة التشريعية لهذه الحادثة، وهي الآيات القرآنية التي نزلت تعليقا عليها، علمنا أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتخذ من غير المسلم وليّا له، أي صاحبا تشيع بينهما مسؤولية الولاية والتعاون.

وهذا من الأحكام الإسلامية التي لم يقع الخلاف فيها بين المسلمين: إذ الآيات القرآنية الصريحة في هذا متكررة وكثيرة، والأحاديث النبوية في تأكيد ذلك تبلغ مبلغ التواتر المعنوي.

ولا مجال هنا لسرد هذه الأدلة فهي معروفة غير خفية على الباحث.

ص: 171

ولا يستثنى من هذا الحكم إلا حالة واحدة، هي ما إذا ألجئ المسلمون إلى هذه الموالاة بسبب شدة الضعف التي قد تحملهم كرها على ذلك. فقد رخّص الله في ذلك إذ قال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمران 3/ 28] .

وينبغي أن نعلم أن النهي عن موالاة غير المسلمين لا يعني الأمر بالحقد عليهم، فالمسلم منهي عن أن يحقد على أحد من الناس. وينبغي أن تعلم أن هنالك فرقا كبيرا بين أن يغضب الإنسان على أحد لله تعالى، وأن يحقد عليه، أما الأول فمصدره منكر لا يرضى عنه الله تعالى يستوجب من المسلم أن يغضب على فاعله بسببه، وأما الثاني فمصدره ذات الشخص نفسه، بقطع النظر عن تصرفاته وأعماله، وهو ما ينهى عنه الإسلام.

والغضب لله، ليس في حقيقته إلا نتيجة شفقة على العاصي أو الكافر المستحق لذلك. إذ، إن المؤمن من شأنه أن يحب لجميع الناس ما يحب لنفسه، وليس شيء أحب إلى نفس المؤمن من أن يخلصها من عذاب يوم القيامة ويضمن لها السعادة الأبدية. فهو إذ يغضب على العصاة والكافرين إنما يحمله على ذلك الغيرة عليهم، والتأثر لما عرضوا أنفسهم له من الشقاء الأبدي وعقاب الله تعالى في الآخرة. وأنت خبير أن هذا ليس من الحقد في شيء، إلا إذا صحّ أن يكون غضب الأب على ابنه، أو الأخ على أخيه من أجل مصلحته وسعادته حقدا!

ولا ينافي هذا مشروعية القسوة في معاملة الكافرين في كثير من الأحيان فكثيرا ما تكون القسوة هي الوسيلة الوحيدة للإصلاح وهي النتيجة التي لا بدّ منها للشفقة والرحمة، كما قال الشاعر:

فقسا ليزدجروا ومن يك راحما

فليقس أحيانا على من يرحم

كذلك ينبغي أن تعلم أن النهي عن موالاة الكافرين لا يستدعي جواز التساهل في تحقيق مبدأ العدالة معهم واحترام المعاهدات التي قد تكون قائمة بين المسلمين وبينهم. فالعدالة ينبغي لها أن تكون مطبقة دائما، وليس للكراهية والغضب في الله تعالى أن يقفا حاجزا دون تحقيق مبادئ العدالة يوما ما. وفي ذلك يقول الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة 5/ 8] .

إنما المقصود أن تعلم أن المسلمين دون غيرهم أمة واحدة، كما نصّت على ذلك الوثيقة التي شرحناها فيما مضى. وإذا كان كذلك، فإن ولاءهم وتآخيهم ينبغي أن يكونا محصورين فيما بينهم. أما معاملتهم فينبغي أن تكون قائمة مع الناس كلهم على أساس دقيق من العدل ورغبة الخير للجميع والدعاء للناس جميعا بالصلاح والرشد.

ص: 172