الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألا إنها لحقيقة واحدة لا ثانية لها: هي الإسلام، فما أحمق الإنسان وما أجهله، حينما يكافح أو يناضل أو يجاهد في غير سبيل الإسلام، إنما يكافح حينئذ عن وهم لا حقيقة له ولا طائل.
*** وبعد، فإن أحداث هذا الفتح العظيم تنطوي على دلالات وأحكام كثيرة مختلفة، يجب تبصرها والوقوف عليها. وسنذكر ما تيسر ذكره من ذلك حسب ترتيب الأحداث نفسها.
أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:
1-
يدلنا سبب فتح مكة، على أن أهل العهد والهدنة مع المسلمين، إذا حاربوا من هم في ذمة المسلمين وجواره، صاروا حربا لهم بذلك. ولم يبق بينهم وبين المسلمين من عهد. وهذا ما اتفق عليه علماء المسلمين.
2-
تدلنا الطريقة التي قصد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، على أنه يجوز لإمام المسلمين ورئيسهم أن يفاجئ العدو بالإغارة والحرب لدى خيانته العهد ونبذه له، ولا يجب عليه أن يعلمهم بذلك.
فقد رأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجمع الخروج إلى مكة دعا قائلا: «اللهم خذ على أبصار قريش فلا يروني إلا بغتة» ، وهذا ما اتفق عليه عامة العلماء.
أما إذا لم تقع الخيانة، وإنما خيف منهم ذلك، بسبب علائم ودلائل قوية، فلا يجوز حينئذ للإمام أن ينبذ عهدهم ويفاجئهم بالحرب والقتال، بل لابد من إعلامهم جميعا بذلك أولا، بدليل قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الأنفال 8/ 58] أي أعلمهم كلهم عن نبذك لعهدهم.
3-
وفي عمله صلى الله عليه وسلم أيضا دليل على أن مباشرة البعض لنقض العهد، بمثابة مباشرة الجميع لذلك، ما لم يبد الآخرون استنكارا حقيقيا له. فالنبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بسكوت عامة قريش وإقرارهم لما بدر من بعضهم من الإغارة على حلفاء المسلمين، دليلا على أنهم قد دخلوا بذلك معهم في خيانة العهد. وهذا لأنه لما دخلت عامة قريش في أمر الهدنة تبعا لكبارهم وممثليهم، اقتضى الأمر أن يخرج أيضا هؤلاء العامة عن الهدنة، تبعا لما قام به كبارهم وزعماؤهم وممثلوهم.
وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع مقاتلة بني قريظة دون أن يسأل كلّا منهم هل نقض العهد أم لا؟، وكذلك فعل ببني النضير فقد أجلاهم كلهم بسبب خيانتهم للعهد الذي بينهم وبين المسلمين، وإنما كان الذين باشروا الخيانة بضعة أشخاص منهم فقط.
ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:
1-
إننا نجد أنفسنا أمام مظهر جديد آخر لنبوته صلى الله عليه وسلم، وما كان يؤيّد به من الوحي من قبل ربه جل جلاله. لقد قال لبعض أصحابه: «اذهبوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة
معها كتاب فخذوه منها» ، فمن الذي أخبره بأمر هذا الكتاب وأطلعه على ما دار بين الظعينة وحاطب بن أبي بلتعة في شأنه؟ إنه الوحي.. وإذن فهي النبوة، وهي التأييد من الله تعالى لنبيه حتى يتم المخطط الإلهي للفتح العظيم الذي أكرم الله به نبيه والمسلمين.
2-
هل يجوز تعذيب المتهم بمختلف الوسائل، حملا له على الاعتراف؟ لقد استدل بعضهم بما قاله علي رضي الله عنه لتلك المرأة: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، استدلوا بذلك على أنه يجوز للإمام أو نائبه أن يسلك من الوسائل ما يراه كفيلا بكشف الجريمة وإظهارها. كما استدلوا على ذلك بما روي من أن اليهود غيبوا أموالا في غزوة خيبر لحييّ بن أخطب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه:«ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ (المسك وعاء من جلد) فقال: أذهبته النفقات والحروب. فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب، فقال لهم: قد رأيت حيي يطوف بخربة هنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة» .
وبعض الباحثين اليوم، يسندون مثل هذا الرأي إلى الإمام مالك رضي الله عنه.
والحق الذي عليه كل الأئمة الأربعة وجمهور الباحثين والعلماء، أنه لا يجوز تعذيب المتهم الذي لم تثبت عليه الجريمة ببينة شرعية كافية، حملا له على الإقرار، فالمتهم بريء ما لم تثبت جريمته.
وخبر الظعينة التي أرسلها حاطب إلى مكة، وتهديد علي رضي الله عنه لها، ليس من هذا في شيء، وذلك للسببين التاليين:
أولا: ليست تلك المرأة مجرد متهمة بما ووجهت به، بل هي حقيقة ثابتة، دلّ عليها خبر أصدق الناس محمد عليه الصلاة والسلام، وهو أقوى في دلالته من بينة الاعتراف والإقرار، فكيف يقاس عليها من حامت حوله التهم لمجرد ظنون وشكوك من أناس غير معصومين؟ وما يقال عن هذه المرأة، يقال أيضا عن عم حيي بن أخطب.
ثانيا: ليس إلقاء الثياب للتفتيش عن الكتاب، كأمر التعذيب أو الحبس، فالفرق بينهما كبير واضح، وإذا ثبت أن الكتاب معها لا محالة، ولم يكن من سبيل إلى الوصول إليه إلا بالتنقيب في ثيابها، فذلك أمر مشروع ولا ريب، بل هو واجب استلزمه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما تعذيب الزبير لعم حيي بن أخطب، فهو أولا: قائم كما قلنا على الحقيقة لا التهمة، ثم هو ثانيا متعلق بأمر الجهاد والحرابة بين المسلمين وغيرهم، فكيف يقاس عليه تعامل المسلمين بعضهم مع بعض؟!.
وأما زعم أن هذا مذهب ذهب إليه مالك رضي الله عنه في فقهه، فهو زعم باطل مخالف لما هو معروف واضح من مذهبه.