الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إياهم أنه نازل عند شروطهم فجاؤوا بها وهي مطوية، فقال أبو طالب: إن ابن أخي قد أخبرني.
ولم يكذبني قط، أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التي كتبتم الأرضة فأتت على كل ما كان فيها من جور وقطيعة رحم، فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا وارجعوا عن سوء رأيكم، فو الله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا ففعلتم به ما تشاؤون.
فقالوا: قد رضينا بالذي تقول. ففتحوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: هذا سحر ابن أخيك!» .. وزادهم ذلك بغيا وعدوانا.
ثم إن خمسة من رؤساء المشركين من قريش، مشوا في نقض الصحيفة، وإنهاء هذا الحصار، وهم: هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أمية، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود.
وكان أول من سعى إلى نقضها بصريح الدعوة زهير بن أمية، أقبل على الناس عند الكعبة فقال:«يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب وبنو هاشم والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ .. والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة» .
ثم قال بقية الخمسة نحوا من هذا الكلام. ثم قام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فمزقها، ثم انطلق هؤلاء الخمسة، ومعهم جماعة، إلى بني هاشم وبني المطلب ومن معهم من المسلمين فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم.
العبر والعظات:
هذه القطعة الظالمة، تصور قمة الشدة التي لقيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طوال ثلاثة أعوام.
وقد رأيت أن المشركين من بني هاشم وبني المطلب، شاركوا المسلمين في تحملها، ولم يرضوا أن يتخلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس لنا من حديث عن هؤلاء المشركين وسبب موقفهم هذا، فقد كان الذي دفعهم إليه حمية القرابة والرحم، وإباء الذل الذي كان يتلبس بهم لو أنهم خلوا بين محمد صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش من غير بني هاشم وبني المطلب يقتلونه ويفتكون به، بقطع النظر عن العقيدة والدين.
فقد آثروا إذن أن يجمعوا بين رغبتين في صدورهم:
الأولى: الثبات على الشرك والاستكبار على الحق الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
الثانية: الانصياع للحمية التي تدعو إلى حماية القريب من بطشة الغريب وظلمه، بحق كان أو بباطل.
أما المسلمون، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما صبّرهم على ذلك الانصياع لأمر الله وإيثار الآخرة على الدنيا، وهوان الدنيا عندهم في جنب مرضاة الله عز وجل، وهذا ما يهمنا أن نبحث فيه.
قد تسمع بعض المبطلين من محترفي الغزو الفكري، يقولون:
وإنها لمغالطة مكشوفة، لا يتماسك عليها حجاب أي منطق ولو كان صوريا.
ذلك لأن من الطبيعي جدا أن تقود الحمية الجاهلية بني المطلب وبني هاشم إلى الذود عن حياة ابن عم لهم، عندما تتهددها يد غريبة ويدنو إليها بالسوء شخص دخيل.
والحمية الجاهلية، إذ تدفع ذوي القرابة إلى مثل هذا التعصب، لا تنظر إلى مبدأ، ولا تتأثر في ذلك بحق أو بباطل، وإنما هي العصبية ولا شيء غير العصبية.
ولذلك أمكن أن يجتمع في ذوي قرباه صلى الله عليه وسلم صفتان متناقضتان بحسب الظاهر، الاستكبار على دعوته والجحود بها، والانتصار له ضدّ سائر المشركين من قريش.
ومع ذلك، فأي فائدة حققوها للنبي صلى الله عليه وسلم من وراء اعتصامهم معه؟ لقد أوذوا كما أوذي هو وأصحابه، ومضت قريش في قطيعتها للمسلمين بالضراوة والشراسة اللتين أرادتهما دون أن يخفف بنو هاشم وبنو المطلب من غلوائهما شيئا.
والمهم أن تعلم بأن حماية أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت حماية لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغلّ هذه الحماية، من قبل المسلمين، وسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم، فأنعم بذلك من جهد مشكور، وسبيل يتنبهون إليها.
*** أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أصحابه المؤمنون، فما الذي كان يمسكهم على هذا الضيق الخانق؟ .. وأي غاية كانوا يتأملونها من وراء الثبات على الشدة؟ ..
بماذا يجيب على هذا السؤال، أولئك الذين يتأولون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإيمان أصحابه بها على أنها ثورة يسار ضدّ يمين أي ثورة الفقراء المضطهدين ضدّ الأغنياء المترفين؟
تصور هذه السلسلة التي استعرضناها، من حلقات الإيذاء والتعذيب، لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ثم أجب على ضوئها، كيف يستقيم أن تكون دعوة الإسلام ثورة اقتصادية ألهبها الجوع وقادها الحقد على تجار مكة وأرباب الفعاليات الاقتصادية فيها؟ ..
لقد عرض المشركون على محمد صلى الله عليه وسلم الملك والثراء والزعامة، على أن يتخلى عن الدعوة إلى الإسلام، فلماذا لم يرض عليه الصلاة والسلام بذلك؟ ولماذا لم يثر عليه أصحابه ولم يضغطوا عليه
- وإن غايتهم الشبع بعد الجوع- كي يقبل بعرض قريش؟ وهل يطمع أصحاب الثورة اليسارية بشيء أكثر من الحكم يكون في أيديهم والمال يكون في جيوبهم؟
ولقد قوطع محمد صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه المسلمون عن سبيل كل معايشة اقتصادية واجتماعية مع بني قومه، فلم تترك سلعة تتسلل إلى أيديهم، ولم يترك طعام يدخل إلى بيوتهم، حتى راحوا يأكلون ورق الشجر، وهم على ذلك صابرون، محدقون برسولهم عليه الصلاة والسلام. أفهكذا يصنع من تعتلج وراء صدره الثورة من أجل لقمة العيش؟! ..
وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهاجر إليها من قبله ومن بعده أصحابه، تركوا المال والأرض والممتلكات المختلفة واستقبلوا بوجوههم شطر المدينة المنورة، وقد تجردوا عن كل ما يتعلق به الطامعون في المال، لا يبتغون عن إيمانهم بالله بديلا، ولا يقيمون وزنا لدنيا فاتتهم ولملك أدبر عنهم، أفهذا هو الدليل على أنها ثورة يسارية قامت من أجل لقمة طعام؟! ..
قد يكون دليل هؤلاء الناس على ما يتصورون، ملاحظة الأمرين التاليين:
الأول: أن الجماعة الأولى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، كانت على الأغلب من الفقراء والموالي والمضطهدين، وهو يدل على أنهم ينفّسون باتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم عن شيء من كربهم، وأنهم كانوا يتأملون مستقبلا اقتصاديا أفضل لأنفسهم في ظل الدين الجديد.
الثاني: أن هؤلاء الأصحاب، ما لبثوا بعد حين أن فتحت عليهم آفاق الدنيا، وأقبل إليهم الثراء والمال، وهو دليل على أن خطة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ترمي إلى تحقيق هذه الغاية.
وأنت إذا تأملت في استدلالهم على ما يتصورونه، بهاتين الملاحظتين، أدركت كم هو نصيب الخيال والوهم من عقولهم ومنهج تفكيرهم.
أمّا أن الجماعة الأولى من أصحابه صلى الله عليه وسلم كانت على الأغلب من الفقراء والموالي، فنعم، ولكن ليس بين هذه الحقيقة وذلك الوهم أي علاقة أو نسب. إن شريعة تقضي بإرساء ميزان العدالة بين الناس، وبالضرب على يد كل ظالم وطاغية ومستكبر، من المسلم به أن يعرض عنها بل أن يحاربها أولئك الذين استمرؤوا حياة البغي والظلم، لأنها تحملهم المغارم أكثر من أن تقدم إليهم المغانم، كما أن من المسلم به أن يرحب بها كل مستضعف مظلوم، بل كل إنسان ليس له في تجارة البغي والاستغلال نصيب؛ لأنها تقدم لهم المغانم أكثر من أن تحملهم المغارم، أو لأنهم- على أقل تقدير- ليست لهم مع الناس مشكلات تجعلهم يستثقلون تبعاتها وتكاليفها.
إن معظم من كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مستيقنا أنه على حق وأنه نبي مرسل، ولكن أرباب الزعامة وعشاق العظمة والسيطرة، وجدوا من طبيعتهم وظروفهم ما أصبح عائقا لهم عن
الاستسلام لهذا الحق والتفاعل معه، أما الآخرون فلم يجدوا ما يعوقهم عن الاستسلام لشيء آمنوا به واستيقنوه.
فما العلاقة بين هذه الحقيقة التي يفهمها كل باحث، وما يزعمه أولئك الزاعمون؟
وأما أن خطة الدعوة الإسلامية التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تهدف إلى امتلاك المسلمين لمنابع الثروة واستيلاءهم على عروش الملوك واستلاب السيادة منهم، - بدليل أن المسلمين قد وصلوا فعلا إلى ذلك- فإنه والله أشبه بمحاولة الجمع بين المشرق والمغرب؟ ..
إذا كان المسلمون قد تمكنوا من فتح بلاد الروم وفارس، في حقبة يسيرة من الزمن، بعد أن صدقوا الله في إسلامهم، أفيكون ذلك دليلا على أنهم ما أسلموا إلا طمعا بعرش الروم والفرس؟!.
لو أنهم أرادوا من وراء إسلامهم الوصول إلى شهوة من شهوات الدنيا أيا كانت، لما تحقق لهم ولا الجزء اليسير من معجزة ذلك الفتح.
لو كان عمر وهو يجهز جيش القادسية ويودع قائده سعد بن أبي وقاص، يطمع في كنوز كسرى، ويسيل لعابه رغبة في أن يتقلب في مثل نعيمه ويجلس على مثل عرشه، لما عاد إليه سعد إلّا بأثقال من الخيبة والهوان، ولكنهم صدقوا الله في الجهاد من أجل نصرة دينه، فصدقهم فيما أكرمهم به من تمليكهم زمام الحكم وإغنائهم بما لم يكونوا يحلمون.
لو كان الحلم الذي يراود المسلمين في معركة القادسية، وصولا إلى ثروة وتقلبا في نعيم وتحقيقا للذائذ العيش، إذن لما دخل ربعي بن عامر رضي الله عنه سرادق رستم مزدريا مظاهر الترف التي غمس فيها السرادق غمسا يتوكأ بزج رمحه على البسط والنمارق الفاخرة حتى أفسدها، ولما قال لرستم:«إن دخلتم الإسلام تركناكم وأرضكم وأموالكم» ! .. أهكذا يقول من جاء ليستلب الملك والأرض والمال؟
لقد أكرمهم الله بمقدرات الدنيا كلها، لأنهم لم يكونوا يفكرون فيها، وإنما كان تفكيرهم منصرفا إلى تحقيق مرضاة الله.
ولو كانوا يهدفون من جهادهم إلى هذه المقدرات لما وصلوا إلى شيء منها.
المسألة بما فيها ليست إلا تحقيقا للقانون الإلهي الذي يقول:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص 28/ 5] .
وإن تفهم هذا القانون لأيسر ما يكون على العقل أي عقل كان، بشرط واحد، هو أن يكون صاحبه حرا عن العبودية لأي رغبة أو غرض.