المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع: - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

الأمانة، وأينعت أرض الجزيرة بغرس التوحيد وانتشر الإسلام يغزو الأفئدة والقلوب في كل مكان.

وإن بالناس- وهم اليوم كثرة متفرقون- لشوقا إلى مزيد من اللقاء مع رسولهم والاستفادة من هديه ونصائحه، وبه هو أيضا صلى الله عليه وسلم شوقا إلى مزيد من اللقاء معهم، لا سيما تلك الحشود التي دخلت في الإسلام حديثا من مختلف جهات الجزيرة العربية، ممن لم تتح لهم فرص اللقاء الكافي معه صلى الله عليه وسلم. وإن أكبر وأجمل فرصة لذلك إنما هي فرصة اللقاء في الحج إلى بيت الله الحرام، وفي سفوح عرفات، لقاء بين أمة ورسولها في ظل شعيرة من أكبر شعائر الإسلام، لقاء اتضح أنه كان في علم الله تعالى وإلهام رسوله، لقاء توصية ووداع.

ويريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا أن يلتقي بهؤلاء الحشود المسلمة، الذين جاؤوا ثمرة جهاد استمر ثلاثة وعشرين عاما، ليلخص لهم تعاليم الإسلام ونظامه في كلمات جامعة وموعظة مختصرة يضمّنها كوامن وجدانه ونبرات محبته لأمته، وليستطلع من وجوههم صورة نسلهم وأعقابهم الذين سيأتون من بعد فينهي إليهم نصائحه وتوصياته من خلف حواجز الزمن ووراء أسوار القرون.

تلك هي بعض معاني حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم: حجة الوداع، وإنك لتراها متجسدة في خطبته التي ألقاها في وادي عرنة في يوم عرفة.

‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

ولله ما أروعها من كلمات، تلك التي ألقاها في سفوح عرفات، وراح يخاطب فيها الأجيال والتاريخ بعد أن أدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في سبيل الدعوة إلى ربه ثلاثة وعشرين عاما لا يكلّ ولا يملّ.. ولله ما أروعها من ساعة، تلك التي اجتمع حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الآلاف المؤلفة، اجتمعوا حوله خاشعين متضرعين، وطالما تربّصوا به قبل ذلك متآمرين ومحاربين. آلاف مؤلفة يملؤون ما يمتد به النظر من كل الجهات، تردد بلسان حالها قول الله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] .

وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر من خلال وجوههم إلى الأجيال المقبلة، إلى العالم الإسلامي الكبير الذي سيملأ شرق الأرض وغربها. وراح يلقي على مسامع هذا العالم خطابه المودع:

«أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا

» .

وأنصتت الدنيا لتسمع قوله، وأنصت الحجر والقفر والمدر إلى الكلمة المودعة ينطق بها فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أنست وسعدت به الدنيا كلها ثلاثة وستين عاما، ها هو اليوم يلمّح بالرحيل، بعد أن قام بأمر ربه وغرس الأرض بغراس الإيمان. وها هو الآن يلخص المبادئ التي جاء بها وجاهد في سبيلها في كلمات جامعة، وبنود معدودة، يلقي بها إلى سمع العالم.

ص: 328

فماذا كان أول بند منها؟

يا سبحان الله ما أجلّ وأروع!. لكأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يستلهم توصياته تلك من واقع المنزلقات التي سيتنكب فيها أقوام من أمته خلال الزمن تائهين وراء غيرهم ضائعين عن القبس الذي سيتركه بين أيديهم فلقد كان أول بند منها هو قوله: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا» .

ولقد كرر هذه التوصية نفسها مرة أخرى في خاتمة خطابه، وأكد ضرورة الاهتمام بها وذلك عندما قال:«تعلمنّ أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة، فلا يحلّ لا مرئ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم. ألا هل بلغت؟» .

ونحن نقول:

أجل والله، لقد بلغت يا سيدي.. ولعلنا اليوم أولى من ينبغي أن يجيبك: اللهم لقد بلّغت! .. وإن كنا في ذلك إنما نسجل مسؤولية على أعناقنا قصرنا كل التقصير في القيام بحقها.

أما البند الثاني: فلم يكن مجرد توصية، ولكنه قبل ذلك قرار أعلن عنه للملأ كله..

لأولئك الذين كانوا من حوله، والأمم التي ستأتي من بعده.

وهذه هي صيغة القرار:

«ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية، تحت قدميّ موضوع! .. دماء الجاهلية موضوعة..

وربا الجاهلية موضوع..» .

فما المعنى الذي تتضمنه صيغة هذا القرار؟ .. إنه يقول: إن كل ما كانت الجاهلية تفخر وتتمسّك به من تقاليد العصبية والقبلية، وفوارق اللغة والأنساب والعرق، واستعباد الإنسان أخاه بأغلال الظلم والمراباة، قد بطل أمره ومات اعتباره، فهو اليوم جيفة منتنة غيبتها شريعة الله في باطن الأرض، وأصبح مكانها من حياة المسلم اليوم تحت موطئ الأقدام. إنه رجس ولّى، وعماهة أدبرت، وغاشية بادت.

فمنذا الذي يرجع بعد ذلك لينبش التراب عن الجيفة المنتنة فيعانقها؟ .. وأي عاقل يتقمم الأدران التي تخلص منها ليتمسح ثانية بها؟ .. وأيّ أبيّ يعمد إلى القيد الذي كسره البارحة وألقاه، ليصلحه ويعود فيتقيّد به اليوم؟! ..

أرجاس من تقاليد الجاهلية، أبعدها الرسول صلى الله عليه وسلم عن منطلق الإنسانية وتقدمها الفكري والحضاري، وأعلن أنها قد عادت حثالة مدفونة تحت قدميه، كي يثبت للدنيا كلها ويسجل على مسمع القرون والأجيال، أنه ما من تائه يزعم التقدم الفكري إذ يعمد فينبش شيئا من هذا الدفين

ص: 329

القديم، إلّا وهو يرجع القهقرى يسبح فى أغوار قصية من التاريخ المظلم القديم، وإن خيّل إليه وهمه أنه إنما يتقدم صعدا ويخطو مترقيا.

وأما البند الثالث: فقد أعلن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطابق الزمن إذ ذاك مع أسماء الأشهر المقسّم عليها، وذلك بعد طول تلاعب بها من العرب في الجاهلية وصدر الإسلام. فقد كانوا- كما قال مجاهد وغيره- يجعلون حجهم كل عامين في شهر معين من السنة، فيحجون في ذي الحجة عامين، ثم يحجون في المحرم عامين وهكذا. فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العام، وافق حجه شهر ذي الحجة وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك أن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات والأرض. أي فلا تتلاعبوا بالأشهر تقديما وتأخيرا، ولا حجّ بعد اليوم إلا في هذا الزمن الذي استقر اسمه: ذو الحجة.

وذكر بعضهم أن المشركين كانوا يحسبون السنة اثنى عشر شهرا وخمسة عشر يوما. فكان الحج في رمضان وفي شوال وذي القعدة.. وفي كل شهر من السنة، وذلك بحكم استدارة الشهر بسبب زيادة الخمسة عشر يوما. ولقد كان حجّ أبي بكر في السنة التاسعة من الهجرة واقعا في شهر ذي القعدة بسبب ذلك، فلما كان العام المقبل، (وفيه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج الوداع) وافق حجّه ذا الحجة في العشر منه وطابق الأهلة. وأعلن حينئذ عليه الصلاة والسلام نسخ الحساب القديم للزمن وأن السنة إنما تعتبر بعد اليوم اثنى عشر شهرا فقط، فلا تداخل بعد اليوم. قال القرطبي: وهذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان استدار..» أي إن زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عينه الله يوم خلق السموات والأرض، بأصل المشروعية التي سبق بها علمه «142»

وفي البند الرابع: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا بالنساء، وأكد في كلمة مختصرة جامعة القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية، وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية التي تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية.

ولقد كانت هذه الحقيقة جديرة بتأكيد التوصية بها، بسبب أولئك المسلمين الذين كانوا قريبي عهد بتقاليدهم الجاهلية التي تقضي بإهمال شأن المرأة وعدم الاعتراف بأي حق لها، ولعل هنالك حكمة أخرى لهذه التوصية والاهتمام بها. وهي أن يكون المسلمون في كل عهد وطور من الزمن، على بيّنة من الفرق الكبير بين كرامة المرأة وحقوقها الطبيعية التي ضمنتها شرعة الإسلام، وما يهدف إليه بعضهم من استباحة الوسائل المختلفة إلى التمتع والتلهي بها، وهو ما حاربه الإسلام.

وفي البند الخامس: وضع النبي صلى الله عليه وسلم الناس من جميع المشكلات التي قد تعترض حياتهم،

(142) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 137 و 138

ص: 330

أمام مصدرين لا ثالث لهما، ضمن لهم بعد الاعتصام بهما، الأمان من كل شقاء وضلال، هما:

كتاب الله وسنة رسوله.

وإنك لتجده يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده، ليبيّن للناس أن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليس وقفا على عصر دون آخر، وأنه لا ينبغي أن يكون لأيّ تطور حضاري أو عرف زمني أي سلطان أو تغلب عليهما.

وأما البند السادس: فقد أوضح فيه صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يكون عليه علاقة الحاكم أو الخليفة أو الرئيس مع الرعية أو الشعب. إنها علاقة السمع والطاعة من الشعب للحاكم مهما كان نسبه وشأنه ومظهره ما دام يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، فإذا حاد عنهما فلا سمع ولا طاعة، فلا مناط لولاء الحاكم وضرورة اتباعه إلا سيره على نهج الكتاب والسنة، وليكن بعد ذلك إن شاء عبدا حبشيا مجدّعا، فلا يخفضه ذلك قيد شعرة عن غيره عند الله تعالى.

ولقد أوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، أنه لا امتياز للحاكم من وراء حدود كتاب الله تعالى وسنة نبيه، ولا يمكن لحاكميته أن ترفعه قيد شعرة فوق مستوى المنهج والحكم الإسلامي، إذ هو في الحقيقة ليس بحاكم ولا يتمتع بأي حاكمية حقيقية، ولكنه أمين من قبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى. ومن هنا لم تتعرف الشريعة الإسلامية على شيء مما يسمى بالحصانة أو الامتيازات لطبقة ما بين المسلمين في شؤون الحكم أو القانون والقضاء.

وفي الختام

يشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخرج مسؤولية الدعوة وتبليغها من عنقه، فها هو الإسلام قد انتشر، وها هي ضلالات الجاهلية والشرك قد تبدّدت، وها هي أحكام الشريعة الإلهية قد بلّغت، وها هو الوحي ينزل عليه صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى مخاطبا البشر كلهم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة 5/ 3] .

ولكنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يطمئن إلى شهادة أمته بذلك أمام الله تعالى يوم القيامة عندما يسألون.. فأعقب توصياته هذه لهم بأن نادى فيهم قائلا: إنكم ستسألون عني، فما أنتم قائلون؟

وارتفعت الأصوات من حوله تصرخ: نشهد أنك قد بلّغت، وأديت، ونصحت. وحينئد اطمأن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم!

لقد كان يريد أن يستوثق من هذه الشهادة التي سيلقى بها وجه ربه عز وجل.. ولقد اطمأن الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، وشعشع الرضى في عينيه، ونظر بهما إلى الأعلى مشيرا بسبابته إلى السماء ثم إلى الناس يقول:

«اللهم اشهد

اللهم اشهد

اللهم اشهد» .

ويا ما أعظمها من سعادة!؟ .. سعادة رسول الله عليه الصلاة والسلام بشبابه الذي أبلاه

ص: 331

وعمره الذي أمضاه في سبيل نشر شريعة ربه جل جلاله، وذلك حينما ينظر فيرى حصيلة الجهد الذي قدّم والعمر الذي بذل، أصواتا ترتفع وتعج بتوحيد الله، وجباها تعنو ساجدة لدين الله وقلوبا خفاقة تجيش بحب الله. ألا ما أسعد حبيب الله إذ ذاك بذكرى ما لقيه من ظمأ الهواجر، وشتات السفر في القفار، وعذاب السخرية والإيذاء، في سبيل هذا الإيمان الذي شاده فوق أرض الله! .. فلتكتحل به عيناك يا سيدي سعادة وسرورا، وليبارك لك ربك في وجيب قلبك اليوم حمدا ونشوة وحبورا.

ولا والله، ما كان ذلك شهادة تلك الآلاف المحتشدة من حولك فحسب، يا سيدي رسول الله. ولكنها شهادة المسلمين في كل جيل وعصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تعلن بلسان حالها ومقالها: نشهد يا رسول الله أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجزاك الله عنا خير ما جوزي نبي عن أمته.

ولكن مسؤولية الدعوة قد انتقلت من بعدك إلى أعناقنا، وما أبعدنا اليوم عن القيام بحقها، وما أشد خيبتنا بلقائك يا سيدي غدا، وإن علينا أوزارا من التقاعس والتكاسل والركون إلى زهرة الحياة الدنيا، بينما يلتفّ من حولك أصحابك البررة الكرام وإن في أيديهم وعلى أبدانهم شهادة الدم الذي سفكوه والجهد الذي بذلوه والدنيا التي حطموها تحت أقدامهم نصرة لشريعتك ودفاعا عن دعوتك وتأسيا بجهادك.

أصلح الله حالنا وحال المسلمين جميعا، وأيقظنا من سكرة الدنيا ونشوة الشهوات والأهواء، وتغمدنا بلطفه وكرمه وجوده.

وأتم صلى الله عليه وسلم حجه، وتضلع من شرب ماء زمزم، وعلّم الناس مناسكهم، ثم عاد أدراجه إلى المدينة، ليواصل السعي والجهاد في سبيل دين الله عز وجل.

ص: 332