المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وأخيرا: كيف ندرس السيرة النبوية على ضوء ما قد ذكرناه: - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: ‌وأخيرا: كيف ندرس السيرة النبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

من المعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم، عندما ظهر في الجزيرة العربية، قدّم نفسه إلى العالم على أنه نبي مرسل من قبل الله عز وجل إلى الناس كافة، ليؤكد لهم الحقيقة التي بعث بها الأنبياء الذين خلوا من قبل، وليحمّلهم المسؤوليات ذاتها التي حمّلها الأنبياء السابقون أقوامهم، موضحا أنه آخر نبيّ مرسل في سلسلة الرّسل الذين تعاقبوا مع الزمن، ثم زاد نفسه تعريفا لهم فأوضح أنه ليس إلا بشرا من الناس يسري عليه جميع سمات البشرية وأحكامها، ولكن الله ائتمنه- بوساطة الوحي- على تبليغ الناس رسالة تعرفهم بهوياتهم الحقيقية، وتنبههم إلى موقع هذه الحياة الدنيا من خارطة المملكة الإلهية زمانا ومكانا، وإلى مصيرهم الذي سيلقونه حتما بعد الموت، كما تلفت نظرهم إلى ضرورة انسجامهم في سلوكهم الاختياري مع هوياتهم التي لا مفرّ منها، أي أن عليهم أن يكونوا عبيدا لله بيقينهم وسلوكهم الاختياري، كما تحققت فيهم هذه العبودية بالواقع الاضطراري. ثم أكّد لهم بكل مناسبة أنه لا يملك أن يزيد أو ينقص أو يبدل شيئا من مضمون هذه الرسالة التي حمّله الله مسؤولية إبلاغها إلى الناس جميعا، بل أكّد البيان الإلهي ذاته هذه الحقيقة قائلا:

وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [سورة الحاقة 69/ 44- 47] .

وإذن، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يقدم نفسه إلى العالم زعيما سياسيا، أو قائدا وطنيا، أو رجل فكرة ومذهب، أو مصلحا اجتماعيا.. بل لم يتخذ لنفسه، خلال حياته كلها، أي سلوك قد يوحي بأنه يسعى سعيا ذاتيا إلى شيء من ذلك.

وإذا كان الأمر هكذا، فإن الذي يفرضه المنطق علينا، عندما نريد أن ندرس حياة رجل هذا شأنه، أن ندرس حياته العامة من خلال الهوية التي قدّم نفسه إلى العالم على أساسها، لنستجلي فيها دلائل الصدق أو عدمه على ما يقول! ..

وهذا يلزمنا، بلا ريب، أن ندرس جميع النواحي الشخصية والإنسانية في حياته، ولكن على أن نجعل من ذلك كله قبسا هاديا يكشف لنا ببرهان علمي وموضوعي عن حقيقة هذه الهوية التي قدّم نفسه إلى العالم على أساسها.

نعم، ربما كان مقبولا أن نزعم بأننا لسنا مضطرين أن نشغل أفكارنا وعقولنا بهذا الذي أراد محمد صلى الله عليه وسلم أن يشغل الناس به من معاني النّبوة والرّسالة في شخصه، لو أن الأمر لم يكن متعلقا بمصيرنا، ولم يكن له من شأن بحريتنا وسلوكنا.

أما وإن القضية متعلقة بذواتنا، وتكشف- إن صحّ الأمر- عن واجبات في المعرفة والسلوك إن لم نسع إلى تحقيقها، وقعنا من ذلك في مغبة شقاء عظيم وهلاك وبيل، إذن فالمسألة أخطر من أن نتصور أنها لا تعنينا، أو أن نمرّ عليها معرضين عابثين! ..

ص: 27

من العبث البيّن عندئذ أن نعرض عن دراسة هذه الهوية التي عرّف محمد صلى الله عليه وسلم العالم على نفسه من خلالها، ثم نتشاغل بالتأمل في جوانب أخرى من شخصه لا صلة لها بنا، وليس لها بتلك الهوية أي تعلق أو مساس.

أجل، وأي عبث أعبث من أن يقف أمامنا هذا الرجل: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ليكشف لنا عن ذاته، ثم ليقول لنا محذرا بملء يقينه ومشاعره:«والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وو الله إنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا» ثم لا يهمنا من شخصه وكلامه إلّا التأمل في عبقريته أو فصاحته وحكمته؟! ..

أليس هذا، كما لو أقبل إليك إنسان وأنت على مفترق طرق، يعرّفك منها على السبيل الموصل الهادي ويحذرك من المتاهات المهلكة، فلم تلتفت من كل ما يقوله لك إلا إلى مظهره ولون ثيابه وطريقة حديثه، ثم رحت تجعل من ذلك موضع درس وتحليل تستغرق فيه؟! ..

إن المنطق يقضي أن ندرس حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من شتى جوانبها: نشأته وأخلاقه، وحياته الشخصية والبيتية، وصبره وكفاحه، وسلمه وحربه، وتعامله مع أصدقائه وأعدائه، وموقفه من الدنيا وأهوائها وزخرفها، دراسة موضوعية تتوخى الصدق والدقة بناء على المنهج العلمي الذي يقضي باتّباع قواعد الرواية والإسناد وشروط الصحة فيها.. أقول إن المنطق يقضي بأن ندرس ذلك كله، ولكن على أن نتخذ منه سلّما للوصول إلى نهاية من البحث والدرس نتأكد فيها من نبوته، ونتبين فيها حقيقة الوحي في حياته. حتى إذا تجلّى لنا ذلك بعد البحث الموضوعي المتجرد عن أيّ هوى أو عصبية، أدركنا أنه صلى الله عليه وسلم، لم يخترع لنا من عنده شرعة وأحكاما، وإنما كان أمينا على إبلاغها إيانا، قضاء مبرما من لدن ربّ العالمين، وعندئذ نتنبه إلى عظم مسؤولياتنا تجاه هذه الشرائع والأحكام رعاية وتنفيذا.

ثم إن كل من ألزم نفسه من دراسة السّيرة النّبوية بالجوانب الإنسانية المجردة، وراح يحللها بعيدا عن الهوية التي قدم النّبي صلى الله عليه وسلم نفسه للناس على أساسها، لا بدّ أن يحبس نفسه ضمن ألغاز مغلقة لا سبيل إلى الخروج منها بأي تحليل.

لا بدّ مثلا أن يقف ذاهلا حائرا أمام لغز الفتح الإسلامي الذي قضى بأن يكون لطائفة من السّيوف القديمة التي طالما أكل بعضها بعضا سلطان سحري في القضاء على حصن الحضارة الفارسية وجبروت البأس الروماني.

ولا بدّ مثلا أن يقف حائرا كل الحيرة أمام لغز القانون الذي تكامل في الجزيرة العربية قبل أن ينمو فيها نبت أي ثقافة، وقبل أن يمتد عليها رواق أي مدنية أو حضارة! .. تشريع متكامل توجت به الجزيرة العربية، وهي لا تزال في مرحلة المهد من سعيها إلى المعرفة والثقافة والحياة

ص: 28

الاجتماعية المعقدة، كيف يتفق ذلك مع ما هو بدهي عند علماء الاجتماع من أن نشأة القانون المتكامل في حياة الأمة ثمرة لنضجها الثقافي والحضاري، ونتيجة لتركيبها الاجتماعي المتطور؟! ..

ألغاز مقفلة، لا يمكن لمن لم يضع نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الحسبان، أن يجد لها أي حلّ في نطاق الأسباب والتعليلات المادية المألوفة. وكم رأينا من باحثين- من هذا القبيل- يتطوحون بأفكارهم ذات اليمين وذات الشمال بحثا عن مخرج من الحيرة، دون أن يعودوا من سعيهم بأي طائل.

ولكن سبيل المخرج من هذه الحيرة واضح مع ذلك.

فالسبيل هو أن نكون منطقيين وموضوعيين في دراسة السّيرة النّبوية، نجعل من الهوية التي عرّف محمد صلى الله عليه وسلم على نفسه من خلالها محورا لدراسة حياته العامة كما قلنا.

حتى إذا أسلمتنا هذه الدّراسة إلى اليقين بأنه نبي مرسل من قبل الله عز وجل، أسلمتنا نبوّته بدورها إلى المخرج من الحيرة والوقوف على السّر بالنسبة لهذه الألغاز، إن النّبي الصادق في نبوته لا بدّ أن يكون مؤيدا من قبل الإله الذي أرسله، ولا بدّ أن يكون القرآن وحي هذا الإله إليه.

فالقانون المتكامل إذن تنزيله وشرعته وليس من تأليف أمّة أميّة حتى يقع العجب وتطبق الحيرة.

وهذا الإله يقول للمؤمنين في محكم تبيانه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران 3/ 139]، ويقول: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ.

وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [سورة القصص 28/ 5]، ويقول: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال 8/ 9- 10] .

فقد اتّضح المبهم، وظهر الحلّ، وانجابت الغاشية، وعاد الأمر طبيعيا إذ ينصر خالق القوى والقدر عباده المؤمنين به الملتزمين بمنهجه ويحقق لهم الفوز على من يشاء.

بل الحيرة كل الحيرة كانت تقع لو أن الله التزم النصر لرسوله والتأييد لعباده المؤمنين، ثم لم تقع معجزة ذلك النصر والتأييد.

ص: 29