الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:
من المعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم، عندما ظهر في الجزيرة العربية، قدّم نفسه إلى العالم على أنه نبي مرسل من قبل الله عز وجل إلى الناس كافة، ليؤكد لهم الحقيقة التي بعث بها الأنبياء الذين خلوا من قبل، وليحمّلهم المسؤوليات ذاتها التي حمّلها الأنبياء السابقون أقوامهم، موضحا أنه آخر نبيّ مرسل في سلسلة الرّسل الذين تعاقبوا مع الزمن، ثم زاد نفسه تعريفا لهم فأوضح أنه ليس إلا بشرا من الناس يسري عليه جميع سمات البشرية وأحكامها، ولكن الله ائتمنه- بوساطة الوحي- على تبليغ الناس رسالة تعرفهم بهوياتهم الحقيقية، وتنبههم إلى موقع هذه الحياة الدنيا من خارطة المملكة الإلهية زمانا ومكانا، وإلى مصيرهم الذي سيلقونه حتما بعد الموت، كما تلفت نظرهم إلى ضرورة انسجامهم في سلوكهم الاختياري مع هوياتهم التي لا مفرّ منها، أي أن عليهم أن يكونوا عبيدا لله بيقينهم وسلوكهم الاختياري، كما تحققت فيهم هذه العبودية بالواقع الاضطراري. ثم أكّد لهم بكل مناسبة أنه لا يملك أن يزيد أو ينقص أو يبدل شيئا من مضمون هذه الرسالة التي حمّله الله مسؤولية إبلاغها إلى الناس جميعا، بل أكّد البيان الإلهي ذاته هذه الحقيقة قائلا:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [سورة الحاقة 69/ 44- 47] .
وإذن، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يقدم نفسه إلى العالم زعيما سياسيا، أو قائدا وطنيا، أو رجل فكرة ومذهب، أو مصلحا اجتماعيا.. بل لم يتخذ لنفسه، خلال حياته كلها، أي سلوك قد يوحي بأنه يسعى سعيا ذاتيا إلى شيء من ذلك.
وإذا كان الأمر هكذا، فإن الذي يفرضه المنطق علينا، عندما نريد أن ندرس حياة رجل هذا شأنه، أن ندرس حياته العامة من خلال الهوية التي قدّم نفسه إلى العالم على أساسها، لنستجلي فيها دلائل الصدق أو عدمه على ما يقول! ..
وهذا يلزمنا، بلا ريب، أن ندرس جميع النواحي الشخصية والإنسانية في حياته، ولكن على أن نجعل من ذلك كله قبسا هاديا يكشف لنا ببرهان علمي وموضوعي عن حقيقة هذه الهوية التي قدّم نفسه إلى العالم على أساسها.
نعم، ربما كان مقبولا أن نزعم بأننا لسنا مضطرين أن نشغل أفكارنا وعقولنا بهذا الذي أراد محمد صلى الله عليه وسلم أن يشغل الناس به من معاني النّبوة والرّسالة في شخصه، لو أن الأمر لم يكن متعلقا بمصيرنا، ولم يكن له من شأن بحريتنا وسلوكنا.
أما وإن القضية متعلقة بذواتنا، وتكشف- إن صحّ الأمر- عن واجبات في المعرفة والسلوك إن لم نسع إلى تحقيقها، وقعنا من ذلك في مغبة شقاء عظيم وهلاك وبيل، إذن فالمسألة أخطر من أن نتصور أنها لا تعنينا، أو أن نمرّ عليها معرضين عابثين! ..
من العبث البيّن عندئذ أن نعرض عن دراسة هذه الهوية التي عرّف محمد صلى الله عليه وسلم العالم على نفسه من خلالها، ثم نتشاغل بالتأمل في جوانب أخرى من شخصه لا صلة لها بنا، وليس لها بتلك الهوية أي تعلق أو مساس.
أجل، وأي عبث أعبث من أن يقف أمامنا هذا الرجل: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ليكشف لنا عن ذاته، ثم ليقول لنا محذرا بملء يقينه ومشاعره:«والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وو الله إنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا» ثم لا يهمنا من شخصه وكلامه إلّا التأمل في عبقريته أو فصاحته وحكمته؟! ..
أليس هذا، كما لو أقبل إليك إنسان وأنت على مفترق طرق، يعرّفك منها على السبيل الموصل الهادي ويحذرك من المتاهات المهلكة، فلم تلتفت من كل ما يقوله لك إلا إلى مظهره ولون ثيابه وطريقة حديثه، ثم رحت تجعل من ذلك موضع درس وتحليل تستغرق فيه؟! ..
إن المنطق يقضي أن ندرس حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من شتى جوانبها: نشأته وأخلاقه، وحياته الشخصية والبيتية، وصبره وكفاحه، وسلمه وحربه، وتعامله مع أصدقائه وأعدائه، وموقفه من الدنيا وأهوائها وزخرفها، دراسة موضوعية تتوخى الصدق والدقة بناء على المنهج العلمي الذي يقضي باتّباع قواعد الرواية والإسناد وشروط الصحة فيها.. أقول إن المنطق يقضي بأن ندرس ذلك كله، ولكن على أن نتخذ منه سلّما للوصول إلى نهاية من البحث والدرس نتأكد فيها من نبوته، ونتبين فيها حقيقة الوحي في حياته. حتى إذا تجلّى لنا ذلك بعد البحث الموضوعي المتجرد عن أيّ هوى أو عصبية، أدركنا أنه صلى الله عليه وسلم، لم يخترع لنا من عنده شرعة وأحكاما، وإنما كان أمينا على إبلاغها إيانا، قضاء مبرما من لدن ربّ العالمين، وعندئذ نتنبه إلى عظم مسؤولياتنا تجاه هذه الشرائع والأحكام رعاية وتنفيذا.
ثم إن كل من ألزم نفسه من دراسة السّيرة النّبوية بالجوانب الإنسانية المجردة، وراح يحللها بعيدا عن الهوية التي قدم النّبي صلى الله عليه وسلم نفسه للناس على أساسها، لا بدّ أن يحبس نفسه ضمن ألغاز مغلقة لا سبيل إلى الخروج منها بأي تحليل.
لا بدّ مثلا أن يقف ذاهلا حائرا أمام لغز الفتح الإسلامي الذي قضى بأن يكون لطائفة من السّيوف القديمة التي طالما أكل بعضها بعضا سلطان سحري في القضاء على حصن الحضارة الفارسية وجبروت البأس الروماني.
ولا بدّ مثلا أن يقف حائرا كل الحيرة أمام لغز القانون الذي تكامل في الجزيرة العربية قبل أن ينمو فيها نبت أي ثقافة، وقبل أن يمتد عليها رواق أي مدنية أو حضارة! .. تشريع متكامل توجت به الجزيرة العربية، وهي لا تزال في مرحلة المهد من سعيها إلى المعرفة والثقافة والحياة
الاجتماعية المعقدة، كيف يتفق ذلك مع ما هو بدهي عند علماء الاجتماع من أن نشأة القانون المتكامل في حياة الأمة ثمرة لنضجها الثقافي والحضاري، ونتيجة لتركيبها الاجتماعي المتطور؟! ..
ألغاز مقفلة، لا يمكن لمن لم يضع نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الحسبان، أن يجد لها أي حلّ في نطاق الأسباب والتعليلات المادية المألوفة. وكم رأينا من باحثين- من هذا القبيل- يتطوحون بأفكارهم ذات اليمين وذات الشمال بحثا عن مخرج من الحيرة، دون أن يعودوا من سعيهم بأي طائل.
ولكن سبيل المخرج من هذه الحيرة واضح مع ذلك.
فالسبيل هو أن نكون منطقيين وموضوعيين في دراسة السّيرة النّبوية، نجعل من الهوية التي عرّف محمد صلى الله عليه وسلم على نفسه من خلالها محورا لدراسة حياته العامة كما قلنا.
حتى إذا أسلمتنا هذه الدّراسة إلى اليقين بأنه نبي مرسل من قبل الله عز وجل، أسلمتنا نبوّته بدورها إلى المخرج من الحيرة والوقوف على السّر بالنسبة لهذه الألغاز، إن النّبي الصادق في نبوته لا بدّ أن يكون مؤيدا من قبل الإله الذي أرسله، ولا بدّ أن يكون القرآن وحي هذا الإله إليه.
فالقانون المتكامل إذن تنزيله وشرعته وليس من تأليف أمّة أميّة حتى يقع العجب وتطبق الحيرة.
وهذا الإله يقول للمؤمنين في محكم تبيانه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران 3/ 139]، ويقول: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ.
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [سورة القصص 28/ 5]، ويقول: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال 8/ 9- 10] .
فقد اتّضح المبهم، وظهر الحلّ، وانجابت الغاشية، وعاد الأمر طبيعيا إذ ينصر خالق القوى والقدر عباده المؤمنين به الملتزمين بمنهجه ويحقق لهم الفوز على من يشاء.
بل الحيرة كل الحيرة كانت تقع لو أن الله التزم النصر لرسوله والتأييد لعباده المؤمنين، ثم لم تقع معجزة ذلك النصر والتأييد.