المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة: - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

قلت: لا، بل ثيّبا، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك له بنات سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤوسهن وتقوم عليهن. قال:

أصبت إن شاء الله، أما إنا لوقد جئنا صرارا «53» أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذاك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها «54» ، فقلت: والله يا رسول الله، مالنا من نمارق!. قال: إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيّسا.

قال جابر: فلما جئنا صرارا، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنحر، وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ودخلنا المدينة.

قال جابر: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل، فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلست في المسجد قريبا منه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل فقال:

ما هذا؟ قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر، قال: فأين جابر؟ فدعيت له فقال:

يا ابن أخي، خذ برأس جملك فهو لك. ودعا بلالا فقال له: اذهب بجابر فأعطه أوقية، فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئا يسيرا، فو الله ما زال ينمو عندي ويرى مكانه من بيتنا» «55» .

‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

اتفق علماء المغازي والسّير، كما أسلفنا، على أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل خيبر. ثم رجّح معظمهم أنها كانت بعد غزوة بني النّضير في العام الرابع للهجرة. وذهب بعضهم كابن سعد وابن حبّان إلى أنها في العام الخامس.

غير أن الإمام البخاري نصّ في صحيحه على أنها كانت بعد خيبر، ولكنها مع ذلك جاءت في ترتيب كتابه قبلها! .. ورجح الحافظ ابن حجر ما ذهب إليه البخاري مستدلا بأن صلاة الخوف كانت مشروعة في ذات الرقاع مع أنه لم يصلّها في الخندق وقد فاتته فصلاها قضاء، كما استدل بما روي في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري يصف كيف نقبت أقدامهم في ذات الرقاع حتى لفّوا عليها الخرق فلذلك سميت بذات الرقاع وأبو موسى الأشعري لم يعد من الحبشة إلا بعد غزوة خيبر. واستشكل ابن القيّم الأمر على ضوء هذه الأدلة فقال: إن هذا يدل على أن غزوة ذات الرقاع ربما كانت بعد غزوة الخندق «56» .

(53) صرار: اسم مكان في ضاحية المدينة.

(54)

جمع غرقة: الوسادة الصغيرة للاتكاء. يقصد أنها إذا علمت بقدومك قامت فهيأت البيت لوصولك

(55)

سياق القصة بهذا اللفظ لابن إسحاق كما رواه ابن هشام في السيرة. وهي في البخاري ومسلم قريب من ذلك.

(56)

انظر فتح الباري: 7/ 294، وعيون الأثر: 2/ 53، وزاد المعاد: 2/ 111

ص: 197

قلت: بل يتعين أن تكون غزوة ذات الرقاع هذه قبلها، إذ ثبت في الصحيح أن جابرا رضي الله عنه استأذن الرسول إلى بيته في غزوة الخندق وأخبر امرأته بما رأى من جوع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قصة الطعام الذي دعا إليه النّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لزوجة جابر:«كلي هذا واهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة» . وثبت في الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جابرا في غزوة ذات الرقاع: «هل تزوجت بعد؟ قال: نعم يا رسول الله» .. الحديث وقد مرّ مفصّلا. أي فلم يكن قد علم النّبي صلى الله عليه وسلم بعد شيئا عن زواجه.

فهذا يدل دلالة واضحة على أن ذات الرقاع كانت قبل الأحزاب فضلا عن خيبر.

ولم أر من استدلّ بهذا على تأخر الأحزاب عن ذات الرقاع، ممن قال بذلك، ولا من أجاب عنه ممن قال بعكسه، ولكنه على كل حال، دليل يكاد يكون قاطعا على ما نقول.

أمّا، ما استدل به الحافظ ابن حجر من أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة الخوف في الأحزاب وصلاها قضاء فيجاب عنه بأنه ربما كان سبب تأخير الرسول صلى الله عليه وسلم لها إذ ذاك، استمرار الرمي بين المشركين والمسلمين بحيث لم يدع مجالا للانصراف إلى الصلاة، وربما كان العدو في جهة القبلة وصلاة الخوف التي صليت في ذات الرقاع كان العدو فيها في غير جهة القبلة كما قد رأيت، أو ربما أخّرها لبيان مشروعية قضاء الفائتة كيفما كانت. كما يجاب عن استدلاله بحديث أبي موسى الأشعري بما ذكره كثير من علماء السّير والمغازي من أن أبا موسى الأشعري إنما قصد بها غزوة أخرى سميت هي أيضا بذات الرقاع. بدليل أنه قال عنها:«خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه» إلخ. وغزوة ذات الرقاع التي نتحدث عنها كان عدد المسلمين فيها أكثر من ذلك.

وقد حاول الحافظ ابن حجر رحمه الله أن يردّ على هذا الكلام ولكن ليس ثمة داع إلى ذلك، خصوصا وقد ثبت الدليل القاطع على ما ذهب إليه علماء المغازي، مما ذكرناه من حديث جابر في كل من الغزوتين.

هذا وسنفصّل الحديث عن تأخير النّبي عليه الصلاة والسلام الصلاة عن وقتها يوم الخندق وما يتعلق به من المسائل والأحكام، في مناسبته إن شاء الله.

ثم إن هذه الغزوة لم يشتبك فيها المسلمون مع أحد من المشركين بقتال، كما رأيت من استعراض خلاصتها، ولكنها مع ذلك تنطوي على مشاهد ذات دلالات هامة يجب دراستها والاعتبار بها. ولقد ذكرنا منها خمسة مشاهد هي خلاصة أحداثها، فلنذكر ما يمكن أن يفهم من كل واحد منها:

أولا: فيما رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري في بيان سبب تسمية هذه الغزوة أو غيرها، كما قلنا، بذات الرقاع صورة واضحة عن مدى ما كان يتحمله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ

ص: 198

رسالة ربّهم والجهاد في سبيله. لقد أوضحت الصورة أنهم كانوا فقراء لا يجدون حتى الظهر الذي يمتطونه لجهادهم وغزواتهم، فالستة أو السبعة يتبادلون ركوب بعير واحد في قطع مسافة بعيدة شاقة، ولكن الفقر لم يستطع مع ذلك أن يعوقهم عن أداء رسالتهم، رسالة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله. فقد تحملوا في سبيل ذلك كل النتائج وكل ألوان المحن

نقبت أقدامهم من طول سيرها على الوعثاء والقتاد، وتساقطت أظافرهم مما اصطدمت بالحجارة والصخور، وتعرّت أقدامهم فلم يجدوا إلا الخرق يلفونها عليها الواحدة فوق الأخرى!! .. ومع ذلك فما ضعفوا وما استكانوا واستهانوا بكل ذلك في جنب عظم المسؤولية الإلهية الملقاة على أعناقهم منذ أن أصبحوا مسلمين، فقد كانوا يتمثلون قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة 9/ 111] .

ثم إنك ترى أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، كره من نفسه أن أباح بهذا الخبر، بعد أن أفلت من فمه، عندما سألوه عن سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع.. وإنما كره ذلك وندم عليه بسبب أنه أفشا شيئا من عمله الذي احتسب أجره عند الله تعالى.

وهذا يدل، كما يقول الإمام النووي، على أنه يستحب للمسلم أن يخفي أعماله الصالحة وما قد يكابده من المشاقّ في طاعة الله تعالى، وأن لا يتعمّد إظهار شيء من ذلك إلا لمصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشيء والتنبيه على الاقتداء به ونحو ذلك. وعلى مثل هذا يحمل ما وجد للسلف من الإخبار ببعض أعمالهم «57» .

ثانيا: الطريقة التي صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة مع أصحابه في هذه الغزوة، هي الأساس الذي قامت عليه مشروعية صلاة الخوف.

ولصلاة الخوف كيفيتان، إحداهما خاصة بأن يكون العدو في جهة القبلة، والثانية خاصة بأن يكون العدو في غير جهتها. والكيفية الثانية هي التي صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع. فقد حان وقت الصلاة، وأشتات العدو من حول المسلمين في أكثر من جهة القبلة وحدها، ويخشى أنهم يراقبون المسلمين من بعد، حتى إذا رأوهم أدبروا عنهم جميعا وانشغلوا بصلاتهم غدروا بهم وانحطوا فيهم بسيوفهم.

فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة مع فرقة من أصحابه، وإخوانهم يراقبون العدو في جهاته المختلفة، حتى إذا أتمّ الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاته نصفها، أي ركعة واحدة، فارقه من كانوا يصلون خلفه وأسرعوا فأتموا الركعة الثانية وحدهم، والرسول واقف في صدر ركعته الثانية، ثم ذهبوا

(57) انظر النووي على صحيح مسلم: 12/ 197 و 198

ص: 199

ليرابطوا مكان إخوانهم، حيث جاء هؤلاء فاقتدوا به صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الركعة الثانية التي بقيت من صلاته، ثم قاموا فأتموا وحدهم الركعة الثانية والنّبي صلى الله عليه وسلم ينتظرهم جالسا، ثم سلّموا معه.

والذي اقتضى هذه الكيفية من الصلاة مع إمكان أدائهم الصلاة بجماعتين، سببان اثنان:

الأول: قصد اجتماعهم كلهم على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك فضيلة لا يصار إلى غيرها عند إمكان تحقيقها.

الثاني: استحباب وحدة الجماعة قدر الإمكان، فتجزئة القوم أنفسهم إلى عدة جماعات تتوالى لأداء فريضة من الفرائض مكروه بدون ضرورة.

ولم يلاحظ السادة الحنفية إلا السبب الأول لها، ولذلك ذهبوا إلى أنه لا مسوغ لبقاء مشروعيتها بعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: قصة المشرك الذي أخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم تحت الشجرة

إلخ، قصة ثابتة صحيحة كما رأيت، وهي تكشف عن مدى رعاية الباري جل جلاله وحفظه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ثم هي تزيدك يقينا بالخوارق التي أخضعها الله جل جلاله له عليه الصلاة والسلام مما يزيدك تبصرا ويقينا بشخصيته النّبوية، فقد كان من السهل الطبيعي بالنسبة لذلك المشرك- وقد أخذ السيف ورفعه فوق النّبي صلى الله عليه وسلم وهو أعزل غارق في غفلة النوم- أن يهوي به عليه فيقتله، وإنك لتلمس من ذلك المشرك هذا الاعتداد بنفسه والزهو بالفرصة الذهبية التي أمكنته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قوله: من يمنعك مني!؟ .. فما الذي طرأ بعد ذلك حتى عاقه عن القتل؟ .. إن الذي طرأ.. هو ما لم يكن في حساب المشرك وتقديره، ألا وهو عناية الله وحفظه لرسوله، فقد كانت العناية الإلهية كافية لأن تملأ قلب المشرك بالرعب وأن تقذف في ساعديه تيارا من الرجفة، فيسقط من يده السيف.. ثم يجلس متأدبا مطرقا بين يدي رسول الله.

وأهم ما يجب أن تعلمه من هذه الحادثة أن هذا هو مصداق قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] . فليست العصمة المقصودة في الآية، أن لا يتعرض لأذى أو محنة من قومه، إذ تلك هي سنّة الله في عباده كما قد علمت. وإنما المراد من العصمة أن لا تطول إليه أي يد تحاول اغتياله وقتله لتغتال فيه الدعوة الإسلامية التي بعث لتبليغها.

رابعا: إنما ذكرنا قصة جابر بن عبد الله وما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من المحادثة في طريق عودتهما إلى المدينة، مع أنها لا تتعلق بشيء من أمر الغزوة لما فيها من الصورة الكاملة الدقيقة لخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وما انطوى عليه خلقه الكريم هذا من لطف في المعاشرة ورقة في الحديث وفكاهة في المحاورة ومحبة شديدة لأصحابه.

فأنت إذا تأملت جيدا في هذه القصة التي سردناها، علمت أن النّبي صلى الله عليه وسلم كان متأثرا بالمحنة

ص: 200

التي طافت على بيت جابر بن عبد الله. فقد استشهد والده في أحد، فقام هو- وهو أكبر أولاد أبيه- على شأن الأسرة ورعاية الأطفال الكثيرين الذين خلّفهم له والده من ورائه، وهو على ذلك رقيق الحال ليس له نصيب وافر من الدنيا.

وكأنما استشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأخر جابر عن القوم بسبب جمله الضعيف الذي لا يملك غيره، مظهرا لحالته العامة هذه.. (وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم إذا سار مع صحبه في طريق، أن يتفقد أصحابه كلهم ويطمئن عليهم بين كل فترة وأخرى) ، فانتهزها فرصة وتخلف حتى التقى معه وراح يواسيه بأسلوبه الرقيق الفكه الذي رأيت، في طريق ليس معهما فيه ثالث.

عرض عليه صلى الله عليه وسلم شراء بعيره، وهو إنما يريد أن يجعل من ذلك ذريعة ومناسبة لإكرامه ومساعدته على وضعه الذي هو فيه، ثم سأله عن الزوجة والبيت، في أسلوب فكه رقيق، وراح يطمئن الزوج الجديد، أنهم إذا وصلوا قريبا من المدينة أقاموا ساعات هناك، حتى يتسامع أهل المدينة بمقدمهم، فتسمع زوجته، فتصلح له من شأنها، وتهيء له البيت بزينته ونمارقه. وينساق معه جابر في الأسلوب نفسه فيقول:«والله يا رسول الله ما لنا من نمارق!» .. فيجيبه عليه الصلاة والسلام قائلا: «إنها ستكون» .

صورة رائعة، عن لطف معشره، وأنس حديثه، والفكاهة الحلوة في محاورته لأصحابه، لم يكتب لنا أن نراها ونسعد بها في مجالسه صلى الله عليه وسلم وغزواته وأسفاره، ولكن ها نحن نستشفها من سيرته وأخباره العطرة فيهزنا الشوق إلى رؤيته التي حرمناها ومجالسه التي سمعنا بها ولم نرها، وغزواته التي قرأناها ولم يكن لنا شرف الاشتراك فيها، اللهم عوضنا عن ذلك كله بلقاء معه في جنان خلدك، وهيّئنا لذلك بتوفيق من لدنك للتمسك بهديه واقتفاء أثره في تحمل كل محنة وضيم في سبيل دينك وتحقيق شريعتك.

خامسا: لابدّ من أن يقف المسلم وقفة متأملة طويلة، أمام خبر ذينك الصحابيين، وهما يقومان على الثغر الذي أمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراسته، ليعلم طبيعة الجهاد الإسلامي وكيف كان يمارسه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لم يكن الجهاد عملا حركيا يقوم على أساس المقاومة المجردة، ولم يتصور واحد من أولئك المسلمين هذه الصورة الشوهاء له ولا في لحظة واحدة.

إنما الجهاد- كما علّمه الرسول أصحابه وكما فهمه الصحابة منه- عبادة كبرى يتعلق فيها كيان المسلم كلّه بخالقه جل جلاله خاشعا مستغيثا متبتلا. وما ساعة يكون فيها المؤمن أقرب إلى ربّه جل جلاله من تلك الساعة التي يستدبر فيها الدنيا ويستقبل بوجهه شطر الموت والاستشهاد.

ولذلك، كان من الطبيعي جدا بالنسبة لذلك الأنصاري، (عباد بن بشر) رضي الله عنه،

ص: 201