الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى رسولي قريش قائلا:
انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون» .
ثم إنهما عادا فقالا للنجاشي: «أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون» . فأرسل إليهم، في ذلك، فقال جعفر بن أبي طالب:«نقول فيه الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: «هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول» .
فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال:«والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود» .
ثم ردّ إليهما هداياهما، وزاد استمساكه بالمسلمين الذين استجاروا به، وعاد الرسل إلى قريش خائبين.
وبعد فترة من الزمن بلغهم إسلام أهل مكة، فرجعوا لما بلغهم ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما قد سمعوه من إسلام أهل مكة باطل، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار، أو مستخفيا وكان جميعهم ثلاثة وثلاثين رجلا. وكان من بين من دخل بجوار، عثمان بن مظعون، دخل بجوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة دخل بجوار أبي طالب.
العبر والعظات:
نأخذ من حديث هجرة المسلمين إلى الحبشة ثلاث دلالات:
الدلالة الأولى: إن الدين والاستمساك به وإقامة دعائمه، أساس ومصدر لكل قوة، وهو السياج لحفظ كل حق من مال وأرض وحرية وكرامة، ومن أجل هذا كان واجب الدعاة إلى الإسلام والمجاهدين في سبيله أن يجندوا كل إمكاناتهم لحماية الدين ومبادئه، وأن يجعلوا من الوطن والأرض والمال والحياة وسائل لحفظ العقيدة وترسيخها، حتى إذا اقتضى الأمر بذل ذلك كله في سبيلها، وجب بذله.
ذلك أن الدين إذا فقد أو غلب عليه، لم يغن من ورائه الوطن والمال والأرض، بل سرعان ما يذهب كل ذلك أيضا من ورائه، أما إذا قوي شأنه وقامت في المجتمع دعائمه ورسخت في الأفئدة عقيدته، فإن كل ما كان قد ذهب في سبيله من مال وأرض ووطن يعود.. يعود أقوى من ذي قبل حيث يحرسه سياج من الكرامة والقوة والبصيرة..
ولقد جرت سنّة الله في الكون على مرّ التاريخ أن تكون القوى المعنوية هي الحافظة للمكاسب والقوى المادية. فمهما كانت الأمة غنية في خلقها وعقيدتها السليمة ومبادئها الاجتماعية الصحيحة، فإن سلطانها المادي يغدو أكثر تماسكا وأرسخ بقاء وأمنع جانبا. ومهما كانت فقيرة في
خلقها مضطربة في عقيدتها تائهة أو جانحة في نظمها ومبادئها فإن سلطانها المادي يغدو أقرب إلى الاضمحلال ومكتسباتها المادية أسرع إلى الزوال.
وقد تصادف أن تجد أمة تائهة في عقيدتها عن جادة الصواب منحطة في مستواها الخلقي والاجتماعي، وهي مع ذلك واقفة على قدميها من حيث القوة والسلطان المادي، ولكنها في الحقيقة والواقع تمر بسرعة نحو هاوية سحيقة. والسبب في أنك لا تحس بحركة هذا المرور وسرعته هو قصر عمر الإنسان أمام طول عمر التاريخ والأحقاب. ومثل هذه الحركة إنما تبصرها عين التاريخ الساهرة لا عين الإنسان الغافل الساهي.
وقد تصادف أن تجد أمة تعرّت عن كل مقوماتها المادية من ثروة ووطن ومال في سبيل الحفاظ على العقيدة الصحيحة وفي سبيل بناء النظام الاجتماعي السليم، ولكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى تجد أرباب هذه العقيدة الصحيحة وما يتبعها من الخلق والنظام الاجتماعي السليمين قد استحوذوا على وطنهم المسلوب ومالهم المغصوب وعادت إليهم قوتهم مضاعفة معززة.
وأنت لن تجد الصورة الصحيحة عن الكون والإنسان والحياة إلا في عقيدة الإسلام الذي هو دين الله لعباده في الأرض ولن تجد من نظام اجتماعي عادل سليم إلا في نظام الإسلام وهديه. ولذا فقد كان من أسس الدعوة إلى الإسلام التضحية بالمال والوطن والحياة في سبيله، فبذلك يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة.
ومن أجل هذا شرع مبدأ الهجرة في الإسلام. فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه- بعد أن نالهم من أذى المشركين ما خشي عليهم معه الفتنة في الدين- بالهجرة والخروج من الوطن.
وأنت خبير أن هذه الهجرة نفسها ضرب غير يسير من ضروب العذاب والألم في سبيل الدين، فهي ليست في الحقيقة هربا من الأذى والراحة، بل هي تبديل للمحنة ريثما يأتي الفرج والنصر.
وأنت خبير أيضا أن مكة لم تكن إذ ذاك دار إسلام حتى يقال: فكيف ترك أولئك الصحابة دار الإسلام وفروا ابتغاء سلامة أرواحهم إلى بلاد كافرة؟ فمكة والحبشة وغيرهما كانت سواء إذ ذاك، وأيها كانت أعون للصحابي على ممارسة دينه والدعوة إليه، فهي أجدر بالإقامة فيها.
أما الهجرة من دار الإسلام فحكمها بين الوجوب والجواز والحرمة، أما الوجوب فيكون عند عدم تمكن المسلم من القيام بالشعائر الإسلامية فيها كالصلاة والصيام والأذان والحج.. وأما الجواز فيكون عندما يصيبه فيها بلاء يضيق به، فيجوز له أن يخرج منها إلى دار إسلامية أخرى. وأما الحرمة فتكون عندما تستلزم هجرته إهمال واجب من الواجبات الإسلامية لا يقوم به غيره «12» .
(12) انظر تفسير القرطبي 5/ 35 وأحكام القرآن لابن العربي 2/ 887
الدلالة الثانية: ونأخذ منها حقيقة العلاقة القائمة بين ما جاء به سيدنا محمد وسيدنا عيسى عليهما الصلاة والسلام، فقد كان النجاشي على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، وكان مخلصا وصادقا في نصرانيته. ولقد كان من مقتضى إخلاصه هذا أن لا يتحول عنها إلى ما يخالفها وأن لا ينتصر لمن تختلف عقيدتهم عما جاء به الإنجيل وما جاء به سيدنا عيسى عليه السلام.
أي فلو صحت تقولات أولئك الذين يزعمون انتماءهم إلى عيسى بن مريم وتمسكهم بالإنجيل، من أن عيسى ابن الله تعالى وأنه ثالث ثلاثة، لتمسك النجاشي- الذي كان من أخلص الناس لنصرانيته- بذلك، ولردّ على المسلمين كلامهم وانتصر لرسل قريش فيما جاؤوا من أجله.
ولكنا رأينا النجاشي يعلق على ما سمعه من القرآن وترجمته لحياة عيسى بن مريم بقوله:
«إن هذا والذي جاء به عيسى بن مريم ليخرج من مشكاة واحدة» . يقول ذلك على مسمع من بطارقة وعلماء الكتاب الذين من حوله.
وهذا يؤكد ما هو بديهي الثبوت من أن الأنبياء كلهم إنما جاؤوا بعقيدة واحدة لم يختلفوا حولها بعضهم عن بعضهم قيد شعرة، ويؤكد لنا أن اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم ليس إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا من عند أنفسهم كما قال الله تعالى.
الدلالة الثالثة: أنه يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء أكان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي إذ كان نصرانيا عندئذ، ولكنه أسلم بعد ذلك «13» ، أم كان مشركا كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة وكأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكالمطعم بن عدي الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من الطائف.
وهذا مشروط- بحكم البداهة- بأن لا يستلزم مثل هذه الحماية إضرارا بالدعوة الإسلامية، أو تغييرا لبعض أحكام الدين، أو سكوتا على اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز للمسلم الدخول فيها. ودليل ذلك ما كان من موقفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقي على نفسه ولا يحمّله ما لا يطيق فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه إذ ذاك للخروج من حماية عمه وأبى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه.
(13) كان النجاشي ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما مات نعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة ثم خرج بهم إلى المصلى فصلى عليه. رواه مسلم.