الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غير أن مظاهر التيسير والتبشير، ينبغي أن لا تتجاوز حدود المشروع والمباح، فليس من التيسير المطلوب أو المشروع تبديل بعض الأحكام أو التلاعب بمفاهيم الإسلام بغية التيسير على الناس، وليس منه الإقرار على المعصية مهما كان شأنها، وإن كان للتيسير المشروع دخل في اختيار الوسيلة التي ينبغي أن تستعمل لإنكارها.
ومن آداب الدعوة إلى الله، (وهي من آداب الإمارة والولاية أيضا) الاحتراز عن التلبس بظلم أي إنسان، وخاصة ما يكون منه بأخذ شيء من أموال الناس بغير حق، وهو نوع خطير من الظلم قد يتعرض له الدعاة إلى الله تعالى إذا ما غفلوا عن حقيقة مسؤولياتهم ومراقبة الله عز وجل لهم، كما يتعرض له أرباب الولاية والسلطان.
ولما كان معاذ رضي الله عنه متسما بكلا الصفتين لدى إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم له إلى اليمن: أي صفة الدعوة، وصفة الإمارة والولاية، فقد شدّد النبي عليه في التحذير من الوقوع في أي نوع من أنواع الظلم، قائلا:
«واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» .
حجة الوداع وخطبتها
روى الإمام مسلم بسنده عن جابر رضي الله عنه قال:
«مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة تسع سنين لم يحجّ، ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله.
وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة لخمس ليال بقين من ذي القعدة «134» ، قال جابر: فلما استوت به ناقته في البيداء، نظرت إلى مدّ بصري بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن» .
(134) اختلف الرواة في اسم اليوم الذي خرج فيه صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن حزم أنه كان يوم الخميس، ونقل آخرون أنه كان يوم الجمعة، والصحيح ما رواه ابن سعد في طبقاته أن ذلك كان يوم السبت، وهو ما جزم به ابن حجر في الفتح. وقد كان يوم الخميس هو أول ذي الحجة، فيكون شهر ذي القعدة على ذلك تسعة وعشرين. ويحمل قول من روى أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان لخمس ليال بقين من ذي القعدة على ظن أن الشهر سيكون ثلاثين.
واختلف الرواة، فأهل المدينة يروون أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج مفردا، ويروي غيرهم أنه قرن مع حجته عمرة، وروى بعضهم أنه دخل مكة متمتعا بعمرة ثم أضاف إليه حجة.
ودخل مكة من أعلاها من طريق كداء حتى انتهى إلى باب بني شيبة، فلما رأى البيت قال:«اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من عظّمه ممن حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما وبرا» «135» .
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه، فعلّم الناس مناسكهم وبيّن لهم سنن حجهم «136» .
وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة خطبة جامعة في جموع المسلمين الذين احتشدوا حوله في الموقف، هذا نصها:
«أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.
أيها الناس، إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا وإن كلّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإنّ أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كلّه.
أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم. أيها الناس، إنّ النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرم الله فيحلوا ما حرّم الله ويحرموا ما أحل الله، وإنّ الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
اتقوا الله في النساء، فإنكم إنما أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله. إنّ لكم عليهنّ حقا ولهنّ عليكم حقا: لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه «137» فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرّح، ولهن عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف.
فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به:
كتاب الله وسنة رسوله.
يا أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشي مجدّع ما أقام فيكم كتاب الله تعالى.
(135) رواه الطبراني، وابن سعد.
(136)
انظر حديث حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية جابر في صحيح مسلم: 4/ 37
(137)
المقصود بذلك أن لا يأذن لأحد ممن يكرهون دخوله عليهن، وليس وطء الفراش كناية عن الزنا كما قد يتوهم.