الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله وعلى أصحابك البررة من الأنصار والمهاجرين. وجمعنا تحت لوائك المحمود، وجعلنا مع أولئك الذي سيلقونك على الحوض يوم القيامة.
غزوة تبوك
وسببها على ما رواه ابن سعد وغيره، أنه بلغ المسلمين من الأنباط الذين كانوا يتنقلون بين الشام والمدينة للتجارة، أن الروم قد جمعت جموعا وأجلبت إلى جانبها لخم وجذام وغيرهم من نصارى العرب الذين كانوا تحت إمرة الروم، ووصلت طلائعهم إلى أرض البلقاء. فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وروى الطبراني من حديث ابن حصين أن جيش الروم كان قوامه أربعين ألف مقاتل «95» .
وكان ذلك في شهر رجب سنة تسع من الهجرة، وكان الفصل صيفا، وقد بلغ الحر أقصاه، والناس في عسرة من العيش، وكانت ثمار المدينة- في الوقت نفسه- قد أينعت وطابت، فمن أجل ذلك أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهة التي سيتجهون إليها، وذلك على خلاف عادته في الغزوات الأخرى.
قال كعب بن مالك: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد واستقبل سفرا ومفازا وعدوا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم» «96» .
وهكذا، فقد كانت الرحلة في هذه الغزوة ثقيلة على النفس، فيها أقسى مظاهر الابتلاء والامتحان، فأخذ نفاق المنافقين يعلن عن نفسه هنا وهناك، على حين أخذ الإيمان الصادق يعلن عن نفسه في صدور أصحابه.
أخذ أقوام من المنافقين يقولون لبعضهم: لا تنفروا في الحر.. وجاء آخر «97» يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن لي ولا تفتني، فو الله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له فيما أراد «98» وعسكر عبد الله بن أبي بن سلول في ضاحية بالمدينة مع فئات من أصحابه وحلفائه، فلما سار النبي صلى الله عليه وسلم، تخلف بكل من معه!.
(95) انظر طبقات ابن سعد: 3/ 218، وفتح الباري: 8/ 87
(96)
متفق عليه.
(97)
هو الجد بن قيس.
(98)
رواه ابن إسحاق وابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وانظر الإصابة: 1/ 230
ومما نزل في ذلك قوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة 9/ 81] وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة 9/ 49] .
أما المؤمنون فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل صوب، وكان قد حض أهل الغنى على النفقة وتقديم ما يتوفر لديهم من الدواب للركوب فجاء الكثيرون منهم بكل ما أمكنهم من المال والعدة، وجاء عثمان رضي الله عنه بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها «99» وبألف دينار نثرها في حجره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يضر عثمان ما فعل بعدها» «100» .
وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله، وجاء عمر بنصف ماله، روى الترمذي عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:«سمعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك عندي مالا، فقلت اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما. قال: فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدا» «101» .
وإذا صح هذا الحديث فلا بد أن يكون هذا الندب بمناسبة غزوة تبوك كما قال ذلك فريق من العلماء.
وأقبل رجال من المسلمين أطلق عليهم (البكاؤون) يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهورا يركبونها للخروج إلى الجهاد معه، فقال لهم:«لا أجد ما أحملكم عليه» . فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا لديهم ما ينفقونه في أسباب خروجهم للغزو.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقارب ثلاثين ألفا من المسلمين «102» ، وتخلف عنه نفر من المسلمين عن غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة. وكانوا- كما قال ابن إسحاق- نفر صدق لا يتهم في إسلامهم. غير أن أبا خيثمة لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك.
(99) رواه الطبراني وأخرجه الترمذي والحاكم والإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن خباب، والأحلاس جمع حلس وهو الكساء الذي يوضع على ظهر البعير.
(100)
رواه الترمذي في سننه والإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن سمرة.
(101)
رواه الترمذي والحاكم وأبو داود. وفي سنده هشام بن سعد عن زيد بن أسلم وقد ضعفه الإمام أحمد والكسائي. واعتبره الحافظ ابن حجر من المرتبة الخامسة، فقال عنه: صدوق له أوهام، إلا أن الذهبي نقل عن أبي داود أنه أثبت الناس إذا روى عن زيد بن أسلم كما في هذا الحديث ونقل عن الحاكم أن مسلما أخرج له في الشواهد.
(102)
روى ذلك ابن سعد وابن إسحاق وغيرهما.
روى الطبراني وابن إسحاق والواقدي أن أبا خيثمة زجع، بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدة أيام، إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين (أي خيمتين) لهما في بستان له، قد رشّت كل واحدة منهما عريشها وبردت له ماء فيه وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: «رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشمس والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا والله بالنصف. ثم قال:
والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيأتا له زادا، ثم قدّم ناضحة فارتحله وخرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، ولما دنا أبو خيثمة من المسلمين قالوا: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كن أبا خيثمة» ! فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: أولى لك يا أبا خيثمة! .. ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فدعا له صلى الله عليه وسلم بخير» .
وعانى المسلمون في هذه الرحلة جهودا شاقة وأتعابا جسيمة.
روى الإمام أحمد وغيره أن الرجلين والثلاثة كانوا يتعاقبون على بعير واحد، وأصابهم عطش شديد حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها «103» .
ولما انتهوا إلى تبوك، لم يجدوا هناك كيدا ولا قتالا، فقد اختفى وتفرق أولئك الذين كانوا قد تجمعوا للقتال. ثم أتاه يوحنه حاكم (أيلة) فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه أيضا الجزية، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك لهم كتابا.
(103) ورواه ابن سعد في طبقاته 3/ 220
(104)
رواه أحمد في مسنده، وأورده الحافظ ابن كثير في تاريخه، ثم قال: ورواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش.