الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطة مدبرة من عليّ رضي الله عنه. وبلغ الأمر عليا وقال: ما للناس؟ فتصايح من حوله:
بيّتنا أهل البصرة وغدروا بنا. فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيل، دون أن يعلم أحد بواقع الأمر وحقيقته. وكان طبيعيا أن تقوم الحرب على ساق وأن يتبارز الفرسان، وقد اجتمع مع علي عشرون ألفا، والتفّ على عائشة ومن معها قرابة ثلاثين ألفا. هذا والسائبة أصحاب ابن السوداء قبّحه الله لا يفترون عن القتل، ومنادي عليّ ينادي: ألا كفوا، ألا كفوا، فلا يسمع أحد «4» .
وفي تلك الأثناء، ومع شدّة الهرج والقتل، كان إذا تلاقت الوجوه المتعارفة تحت مظلة الإيمان والمشدودة إلى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحاجزوا وكفّ كل منهم عن الآخر، من أي الأطراف كانوا.
روى البيهقي موصولا قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن القاضي يروي بسنده عن حرب بن الأسود الدؤلي قال: لما دنا عليّ وأصحابه من طلحة والزبير ودنت الصفوف بعضها من بعض، خرج عليّ وهو على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى: ادعوا لي الزبير بن العوام، فدعي له الزبير، فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابّهما. فقال عليّ: يا زبير نشدتك الله أتذكر يوم مرّ بك رسول الله ونحن في مكان كذا وكذا، فقال: يا زبير ألا تحبّ عليا؟ فقلت: ألا أحبّ ابن خالي وابن عمي وعلى ديني؟ فقال: يا زبير أما والله لتقاتلنّه وأنت له ظالم. فقال الزبير: بلى، والله لقد نسيته منذ أن سمعته من رسول الله، ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك أبدا. ورجع الزبير على دابته يشقّ الصفوف.
ولما سقط بعير عائشة رضي الله عنها على الأرض، وحمل هودجها بعيدا عن ساحة الهرج، جاء إليها عليّ رضي الله عنه مسلّما ومستفسرا عن حالها، وقال لها: كيف أنت يا أمه؟ قالت:
بخير. فقال: يغفر الله لك. ثم جاء وجوه الناس والصحابة يسلّمون عليها ويطمئنون على حالها «5» .
أمر معاوية ووقعة صفّين:
رجع عليّ رضي الله عنه إلى الكوفة التي جعلها مقرّ خلافته، وأرسل فور وصوله جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية بالشام يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، ويعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته؛ ولكن معاوية كان يرى أن بيعة عليّ لم تنعقد لافتراق أهل الحل والعقد من الصحابة في الآفاق، ولا تتم البيعة إلا بهم جميعا، فامتنع من الاستجابة لدعوته رضي الله عنه، حتى يقتل قتلة عثمان، ثم يختار المسلمون لأنفسهم إماما.
(4) تاريخ الطبري: 4/ 506، والبداية والنهاية: 7/ 240
(5)
البداية والنهاية: 7/ 241
أما عليّ رضي الله عنه، فقد كان على يقين بأن البيعة قد تمت له باتفاق أهل المدينة، دار الهجرة النبوية، وأنها بذلك تلزم من تأخر عنها ممن كان خارج المدينة.. أما الثأر من قتلة عثمان فقد قلنا أن عليا رضي الله عنه كان من أشد المتحمسين لذلك، ولكنه كان يخطط لذلك بما يضمن سلامة النتائج.
ولما بلغه الرفض من معاوية، عدّه باغيا خارجا على جماعة المسلمين وإمامهم. فخرج رضي الله عنه بمن معه لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فعسكر بالنخيلة، وقدم عليه ابن عباس من البصرة بعد أن استخلف عليها، وعبأ رضي الله عنه جيوشه متوجها لمحاربة أهل الشام وإجبارهم على الخضوع لجماعة المسلمين «6» .
ولما علم معاوية بذلك، سار إليه في جيوشه من الشام، والتقى الطرفان في سهل صفين على نهر الفرات.. وتردد بينهما الرسل قرابة شهرين أو يزيد، عليّ رضي الله عنه يدعو معاوية ومن معه إلى مبايعته، ويطمئنه أن القصاص من قتلة عثمان آت في ميقاته القريب، ومعاوية يدعو عليا قبل كل شيء إلى ملاحقة قتلة عثمان الذي هو ابن عمه وهو أولى الناس بالمطالبة بدمه. وربما قام بينهم خلال ذلك بعض القتال والمناوشات.
وظلّ الطرفان على هذه الحال إلى أن دخل شهر محرم من السنة السابعة والثلاثين، فاتفق معاوية وعليّ على هدنة مدتها شهر، أملا في التصالح. ولكن مدّة الهدنة انقضت دون أي فائدة.
وعندئذ أمر عليّ مناديا ينادي: يا أهل الشام يقول لكم أمير المؤمنين قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه، فلم تنتهوا عن طغيانكم ولم تجيبوا إلى الحق وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين «7» .
وعندئذ نهض معاوية وعمرو بن العاص فعبيا الجيش ميمنة وميسرة، وعبّى علي رضي الله عنه جيشه من ليلته فجعل على خيل أهل الكوفة الأشتر النخعي وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف. ثم أوصى عليّ من معه أن لا يبدؤوا أحدا بقتال حتى يبدأ أهل الشام، وأن لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبر ولا يكشف ستر امرأة ولا تهان.
واقتتل القوم في اليوم الأول قتالا شديدا، واقتتلوا في اليوم الثاني أيضا قتالا شديدا. واستمر القتال سبعة أيام لا يتغلب أحد من الطرفين على أحد. ولكنّ وطأة القتال اشتدت أخيرا على معاوية ومن معه وأوشك جيش علي رضي الله عنه على النصر.
وعندئذ تشاور كل من معاوية وعمرو بن العاص في الأمر، فأشار عليه عمرو، أن يدعو أهل العراق إلى تحكيم كتاب الله، فأمر معاوية الناس برفع المصاحف على الرماح، وأن ينادي مناد
(6) البداية والنهاية 7/ 254
(7)
المرجع المذكور 7/ 260
باسمه: هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم. فلما رأى ذلك أصحاب علي- وكان قد أشرفوا على النصر- اختلفوا: ففريق يقول نجيب إلى تحكيم كتاب الله، وفريق يأبى إلا القتال لعلمهم بأن الأمر خدعة.. وكان هذا هو رأي علي رضي الله عنه. غير أنه اضطر أن يتبع رأي مخالفيه لكثرتهم. فأرسل الأشعث بن قيس إلى معاوية يسأله عما يريد، فكان جواب معاوية: لنرجع نحن وأنتم إلى كتاب الله، ولنختر منا رجلا نرضاه ولتختاروا منكم رجلا ترضونه، ولنأخذ جميعا العهد عليهما أن يحكما بما يأمر به كتاب الله، فمهما قررا اتبعناهما جميعا، فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، واختار أهل العراق أبا موسى الأشعري. فاجتمعت كلمة الفريقين- بعد أن كتبا بينهما كتابا بهذا الخصوص- على أن يؤجل البت في الأمر إلى شهر رمضان، على أن يجتمع الحكمان عندئذ بدومة الجندل. ثم انفض الناس.
ورجع أمير المؤمنين علي من صفين إلى الكوفة، وقد تسرب الشقاق الخطير إلى جيشه، ولما وصل علي رضي الله عنه إلى الكوفة؛ اعتزله جماعة ممن رأوا التحكيم ضلالا واجتمعوا في حروراء، وكانوا قرابة اثني عشر ألفا. فأرسل إليهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس ليحاورهم وينصحهم، ولكنه لم يعد من سعيه معهم بأي طائل.. فخرج إليهم علي رضي الله عنه بنفسه. ولما اجتمع إليهم قال لهم: ما سبب خروجكم هذا؟ قالوا: حكومتك يوم صفين، قال:
ولكني اشترطت على الحكمين أن يحيييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن.. قالوا: فخبرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لم نحكّم الرجال وإنما حكّمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خطّ مسطور بين دفتين لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال.. قالوا: فلم جعلتم الأجل بينكم؟
قال: ليعلم الجاهل ويثبت العالم، ولعلّ الله يصلح بهذه الهدنة هذه الأمة.
وعندئذ رجعوا إلى رأيه، فقال: ادخلوا مصركم رحمكم الله، فدخلوا عن آخرهم.
ولما انقضى الأجل المضروب وحلّ شهر رمضان من السنة السابعة والثلاثين أرسل عليّ رضي الله عنه أبا موسى الأشعري في جمع من الصحابة وأهل الكوفة وأرسل معاوية عمرو بن العاص في جمع من أهل الشام، واجتمع الفريقان في دومة الجندل، وبعد أن حمدا الله وأثنيا عليه وتناصحا، اتفقا على أن يدعى بصحيفة وكاتب وأن يمليا عليه ما قد يتفقان عليه.. ولكنهما لم يتفقا أخيرا على من يوليانه أمر هذه الأمة. فإن أبا موسى الأشعري رضي بخلع عليّ ومعاوية، ولم يختر للخلافة إلا عبد الله بن عمر، غير أنه رضي الله عنه لم يرض الدخول في هذا الأمر.
وعندئذ اصطلح الحكمان على أن يخلعا عليا ومعاوية، ويتركا الأمر شورى بين المسلمين، ليتفقوا على من يختارونه لأنفسهم. ثم توجها إلى جموع الناس من الطرفين، فقدّم عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري ليعلن على الناس ما اتفقا عليه، فتقدّم وحمد الله وصلى على رسول الله، ثم