الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فذلك هو المقصود بقوله تعالى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة 9/ 3] .
وروى ابن سعد أن النّبي صلى الله عليه وسلم عندما استعمل أبا بكر على الحج، خرج في ثلاثمائة رجل من أهل المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة قلدها وأشعرها.
العبر والعظات:
1-
المشركون وتقاليدهم في الحج: لقد عرفت فيما مضى أن الحج إلى بيت الله الحرام كان مما ورثه العرب عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكان من بقايا الحنيفية التي ما زالوا محافظين عليها. إلا أن كثيرا من أدران الجاهلية وأباطيل الشرك قد تسلل إليه، حتى غدا مظهرا من مظاهر الشرك أكثر من أن يكون عبادة قائمة على عقيدة التوحيد.
ذكر ابن عائذ أن المشركين كانوا يحجون مع المسلمين، ويعارضهم المشركون بإعلاء أصواتهم ليغلطوهم بذلك، فيقولون:«لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك» . وكان رجال منهم يطوفون عراة ليس على رجل منهم ثوب، يرون ذلك تعظيما للبيت! .. وكان يقول أحدهم:
«أطوف بالبيت كما ولدتني أمي، ليس عليّ شيء من الدنيا خالطه الظلم» «116» .
وظلت هذه الأرجاس إلى نهاية العام التاسع من الهجرة، حيث كان حج أبي بكر رضي الله عنه والإنذار الذي أبلغه كل من أبي بكر وعلي رضي الله عنهما لسائر المشركين، إيذانا بطهارة المسجد الحرام عن تلك الأرجاس، وزوالها إلى غير رجعة.
2-
انتساخ العهد بإعلان الحرابة: ثم اعلم أن المشركين كانوا إذ ذاك صنفين، كما قال محمد بن إسحاق وغيره: أحدهما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى ما دون أربعة أشهر من الزمن، فأمهل هذا الصنف إلى تمام المدة، وثانيهما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد مفتوح، أي بغير أجل، فاقتصر به القرآن في سورة براءة على أربعة أشهر، ثم هو بعد ذلك الحرب بينهم وبين المسلمين، يقتل أحدهم حيث أدرك، إلا أن يسلم ويتوب، وابتداء هذا الأجل من يوم عرفة من العام التاسع، وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر.
وقيل- وهو رأي الكلبي-: إنما كانت الأشهر الأربعة مدة لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر. فأما من كان عهده أكثر من ذلك، فقد أمر الله أن يتم عهده إلى مدته، فذلك هو معنى قوله عز وجل: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة 9/ 4] .
(116) انظر عيون الأثر لابن سيّد الناس: 2/ 231
والقول الأول أصح وأوجه، إذ ليس في سورة براءة شيء جديد على رأي الكلبي، وإنما هي تأكيد للعهود القائمة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمشركين، لم تغير منها شيئا ولم تأت بجديد، فأي معنى عندئذ في قراءة عليّ رضي الله عنه للسورة على مسامع المشركين ينذرهم بها، وأي جديد في أن يبعث النّبي صلى الله عليه وسلم عليّا بذلك؟
3-
تأكيد آخر لحقيقة معنى الجهاد: وإنك لتلحظ في هذا تأكيدا جديدا على أن الجهاد في الشريعة الإسلامية ليس حربا دفاعية كما يصوّر المستشرقون! ..
تأمل في قوله عز وجل وهو ينذر فلول المشركين وبقاياهم حول مكة، من أهل نجد وغيره.
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ، وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة 9/ 1- 5] .
إن هذه الآيات الواضحة القاطعة، لم تبق في الذهن أي مجال لتصور ما يسمى بالحرب الدفاعية، أساسا لمعنى الجهاد في الإسلام.
وأنت تعلم أن سورة براءة من أواخر ما نزل من القرآن، فأحكامها- وأكثر أحكامها تتعلق بالجهاد- مستقرة باقية.
ولست أرى ما يدعو إلى القول بأن هذه الآيات نسخت ما قبلها من الآيات التي تقرر الجهاد الدفاعي، كقوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج 22/ 39] .
ذلك لأن الجهاد في أصل مشروعيته غير ناظر إلى هجوم ولا إلى دفاع، إنما هو يهدف إلى إعلاء كلمة الله تعالى وإشادة صرح المجتمع الإسلامي السليم وإقامة دولة الله في الأرض، فأيّا كانت الوسيلة المتعينة إلى ذلك وجب اتباعها.
قد تكون الوسيلة، لظرف ما، المسالمة وبثّ النصيحة والتعليم والإرشاد، وعندئذ لا يفسر الجهاد إلا بذلك.
وقد تكون الوسيلة، لظرف آخر، الحرب الدفاعية مع النصح والإرشاد والتوجيه، فهذا هو الجهاد المشروع حينئذ.