الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحيّ من قريش، إذ كانوا إمام الناس وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل عليه السلام وقادة العرب. فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوّخها الإسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عدوانه، فدخلوا في دين الله تعالى أفواجا، كما قال تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر 110] .
ونحن لا نرى حاجة- في هذا المجال- إلى سرد تفاصيل هذه الوفود وأخبارها، إذ لا يوجد كبير غرض لنا في هذا التفصيل.
العبر والعظات:
أتذكر خبر أولئك الذين استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن هاجر إلى الطائف، شرّ استقبال، وأخرجوه من ديارهم شرّ إخراج، وألحقوا به سفهاءهم وصبيانهم يضربونه ويؤذونه ويسخرون منه؟ .. تلك هي ثقيف التي سعت اليوم إليه ودخلت في دين الله تعالى صادقة طائعة.
وهل تذكر إذ قال زيد بن حارثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عاد أدراجه من الطائف إلى مكة: «كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام:
يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيّه» !.
إن ما حدث اليوم هو مصداق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد، فتلك هي الطائف، وهذه مكة وشتى قبائل وبطون العرب قد سعت جمعيها تدخل في دين الله أفواجا.
ثم تعال فتأمل! .. تأمل في كل ذلك الإيذاء الذي رآه من ثقيف والخيبة التي فوجئ بها بعد أن هاجر ساعيا على قدميه يعبر إليهم جبالا وأودية قاصية مؤملا عندهم استقبالا كريما أو استجابة حسنة. إن أدنى ما يترك ذلك في نفس الإنسان- أيّا كان- من الناس من الأثر، أن يفكر في الانتقام أو أن يقابل إساءة بمثلها.
ولكن أين تجد هذا- أو حتى شيئا من هذا- في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه ثقيف، لقد حاصر الطائف أياما ثم أمر أصحابه بالرجوع، فقيل له: ادع على ثقيف، فأبى ذلك ورفع يديه يقول:«اللهم اهد ثقيفا وأت بهم مؤمنين» ! ..
ولما استجاب الله دعاء رسوله فجاء وفد ثقيف إلى المدينة، تسابق أبو بكر الصديق والمغيرة بن شعبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشّرانه بذلك، لما يعلم كل منهما من شدة سرور النّبي صلى الله عليه وسلم بنبأ إسلام ثقيف وهدايتهم، فخرج يستقبلهم في بشر وإكرام، وراح يحبس عليهم وقته كله يعلّمهم ويرشدهم وينصح لهم.
طالما أرادوا به الكيد وشفوا بإيذائه غليل أحقادهم عليه، وهو لا يريد بهم إلّا الخير والسعادة والرشد في الدنيا والآخرة، طالما فرحوا بمنظر النكبة والضّر يرى متلبسا بهما، ولكنه لم يفرح لهم إلا بنعمة الخير والإسلام إذ أكرمهم بهما الله! ..
ترى، أهذا كله طبيعة بشرية في إنسان، يدعو إلى مبدأ يراه أو عقيدة قد تخيّرها؟!
أما إنها ليست إلا طبيعة النبوّة.. وليست إلا من أثر تطلّعه عليه الصلاة والسلام إلى هدف واحد فقط، هو أن تؤتي هذه الدعوة ثمارها فيلقى ربه وهو عنه راض. وما أهون الآلام والنكبات كلها في هذا السبيل، وما أعظم الفرحة إذ يجتاز العبد تلك المفاوز كلها ويستقر عند هذا الهدف الجليل! ..
وذلك هو الإسلام: لا يعرف حقدا ولا ضغينة ولا يريد شرا بإنسان.
يأمر بالجهاد، ولكن في غير ضغينة وحقد. يعلّم القوة، ولكن في غير أنانية وكبر. يدعو إلى الرحمة، ولكن في غير مهانة أو ضعف. ويعلّم الحب، ولكن في سبيل الله وحده.
إذن، لقد كان وفد ثقيف، والوفود الأخرى التي تلاحقت متجهة إلى المدينة داخلة في الإسلام، كان كل ذلك وفاء بوعد (النصر العزيز) الذي وعد الله به رسوله.
*** تلك هي العبرة التي ينبغي أخذها من قصة هذه الوفود. أما الدروس والأحكام فإليك منها ما يلي:
أولا- جواز إنزال المشرك في المسجد إذا كان يرجى إسلامه وهدايته: فقد رأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل وفد ثقيف في مسجده لمحادثتهم وتعليمهم، وإذا كان هذا جائزا للمشرك، فجوازه للكتابيّ أولى. وقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، حينما جاؤوه لسماع الحق ومعرفة الإسلام.
قال الزركشي: واعلم أن الرافعي والنووي رحمهما الله أطلقا أنه يجوز للكافر أن يدخل المساجد غير الحرم بإذن المسلم، بقيود:
أولها: أن لا يكون قد شرط عليه في عقد الذمة عدم الدخول، فإن كان قد شرط عليه ذلك، لم يؤذن له.
ثانيها: أن يكون المسلم الذي أذن له مكلفا، كامل الأهلية.
ثالثها: أن يكون دخوله لسماع قرآن أو علم ورجي إسلامه، أو دخل لإصلاح بنيان ونحوه، وقضية كلام القاضي أبي علي الفارقي أنه لو دخل لسماع القرآن أو العلم وهو ممن لا يرجى
إسلامه أنه يمنع وليس لنا أن نأذن له في الدخول، أي كما إذا كانت الحالة تشعر بالاستهزاء أو بالمجاملة السياسية ابتغاء غرض معين كما هو شأن كثير من الأجانب اليوم.
فأما إذا استأذن لنوم أو أكل ونحوه، قال في الروضة: ينبغي أن لا يؤذن له في دخوله لذلك، وظاهره الجواز: وقال غيره- أي غير النووي- لا يجوز لنا أن نأذن له في ذلك. قال الفارقي: «وفي معنى ذلك، الدخول لتعلم الحساب واللغة وما كان في معناه. ولا خفاء أن موضع التجويز إذا لم يخش على المسجد ضرر ولا تنجيس ولا تشويش على المصلين» «124» .
قلت: وأهم من ضرر التشويش ضرر الفتنة التي قد يتعرض لها المصلون بدخول نساء كافرات وهن بأزيائهن الفاضحة. ومثل الدخول للنوم والأكل في المنع، الدخول للنظر في معالم البناء ونقوشه.
ثانيا- حسن معاملة الوفود والمستأمنين: والفرق بين الوفد والمستأمن، أن الأول قادم رسولا عن قومه وهو يكون دائما مكونا من عدة أفراد، أما الثاني فقادم لنفسه يطلب الأمان في بلاد المسلمين ريثما يأخذ علما عنهم وعن الإسلام.
فأما المستأمن فقد أمر الله بحسن استقباله والمحافظة عليه ثم إبلاغه مأمنه عندما يريد ذلك، وذلك بصريح قوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.. [التوبة 9/ 6] .
وأما الوفود، فقد دلّ على هذا الحكم أيضا في حقهم، القياس على المستأمن، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حسن سياسته ومعاملته معهم، فقد رأيت كيف أكرم الرسول صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في القدوم والإقامة.
ثالثا- أحق الناس بالولاية والإمامة أعلمهم بكتاب الله تعالى: ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص على ثقيف، فقد أعجبه ما رأى فيه من الحرص على فهم كتاب الله تعالى ولقد أصبح خلال الفترة التي أقامها في المدينة مع أصحابه، أعلمهم بكتاب الله وأفقههم في الإسلام. والإمارة والولاية ليس كل منهما إلا مسؤولية دينية يراد منها إقامة الحكم والمجتمع الإسلامي فلا بدّ من توفر هذا الشرط فيهما.
رابعا- وجوب هدم الأوثان والتماثيل: وليس من شرط وجوب ذلك أن يكون هناك من يعبدها أو يقدسها، بل الحكم في ذلك عام وشامل لكل حالة، لعموم الدليل هنا، ولدليل أمره صلى الله عليه وسلم بتحطيم تلك التماثيل التي استخرجت من جوف الكعبة، مع أنها لم تكن تعبد كتلك
(124) إعلام الساجد للزركشي: 319- 321 باختصار.
الأصنام الأخرى، وهذا يدل على ما كنا قد ذكرناه من حرمة صنع التماثيل على اختلاف أنواعها وأشكالها، وعلى حرمة اقتنائها مهما كانت أسباب ذلك «125» .
*** هذا ولنكتف بهذا الذي ذكرناه من خبر وفد ثقيف، عن تفصيل ذكر أخبار الوفود الكثيرة الأخرى، التي قدمت خلال هذا العام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعدم تعلق غرض كبير في هذا المقام بذلك.
غير أن مما ينبغي أن تعلمه، أن هذه الوفود كانت في مجموعها تمثل فئتين: إحداهما فئة المشركين، والثانية فئة أهل الكتاب.
فأما المشركون، فقد دخل عامتهم في الإسلام، وما رجعت وفودهم إلا وهي تحمل مشعل الإيمان والتوحيد إلى قومها. وأما أهل الكتاب فقد بقي أكثرهم على ما هم عليه، من اليهودية أو النصرانية.
ولقد كان الوفد الذي جاء يمثل نصارى نجران مؤلفا من ستين رجلا، ولقد لبثوا عنده صلى الله عليه وسلم أياما يجادلهم ويجادلونه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ووحدانية الله تعالى.
وكان آخر ما عنده صلى الله عليه وسلم لهم أن تلا عليهم قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران 3/ 59، 60، 61] .
فلما أبوا أن يقروا، دعاهم إلى المباهلة «126» كما أمره الله بذلك، وذهب عليه الصلاة والسلام فأقبل مشتملا على الحسن والحسين رضي الله عنهما في خميل له، وفاطمة رضي الله عنها تمشي خلفه، للمباهلة.
فأبى رئيس وفدهم، وهو شرحبيل بن وداعة، المباهلة أيضا وحذر أصحابه من عاقبة ذلك عليهم. فأقبلوا إليه صلى الله عليه وسلم يحكّمونه فيما دون كلّ من الإسلام والمباهلة، وينزلون عند حكمه في ذلك. فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية وكتب لهم بذلك كتابا، والتزم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم- إن دفعوا الجزية المتفق عليها- أن لا تهدم لهم بيعة، ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا- أي غدرا أو خيانة- أو يأكلوا الربا «127»
***
(125) انظر ص 279 فما بعد من هذا الكتاب.
(126)
المباهلة: أي الدعوة إلى أن يبتهل كل طرف إلى الله أن يجعل لعنته على الطرف الكاذب.
(127)
رواه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة بتفصيل مطول، وروى خبر المصالحة على الجزية، أبو داود أيضا في كتاب الخراج، باب أخذ الجزية، وانظر قصة وفد نصارى نجران في تفسير ابن كثير: 1/ 368، 369