المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مضى من آبائنا، وليكن فيمن بعث لنا منهم قصيّ بن - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: مضى من آبائنا، وليكن فيمن بعث لنا منهم قصيّ بن

مضى من آبائنا، وليكن فيمن بعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل وليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي.. فإن صنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا كما تقول» .

فقال لهم: «ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا» .

ثم إنهم قالوا له- بعد طول كلام وخصام-: «إنا قد بلغنا أنه إنما يعلّمك هذا، رجل في اليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلك أو تهلكنا. ثم قاموا وانصرفوا عنه» .

‌العبر والعظات:

في هذا المشهد الذي عرضناه من سيرته صلى الله عليه وسلم ثلاث دلالات، كل واحدة منها على جانب كبير من الأهمية.

الدلالة الأولى: وهي توضح لنا في تمحيص دقيق حقيقة الدعوة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفصلها عن كل ما قد يلتبس بها من الأهداف والأغراض التي قد يضمرها في أنفسهم عادة أرباب الدعوات الجديدة والمنادون بالثورة والإصلاح.

هل النبي صلى الله عليه وسلم يضمر من وراء دعوته الوصول إلى ملك؟ أو لعله يضمر الوصول إلى مستوى رفيع من الزعامة أو الغنى، أو لعل الأمر لا يعدو خيالات تتراءى له بسبب مرض يعانيه؟

كل هذه الاحتمالات، وسائل قد يتذرع بها محترفو الغزو الفكري وأعداء هذا الدين.. ولكن يا لأسرار الحياة العظيمة التي هيأها رب العالمين لرسوله! .. لقد ملأ الله عز وجل حياة رسوله بالمواقف والمشاهد التي تقطع دابر كل احتمال، وتقطع السبيل إلى كل وسواس، وتدع أرباب الغزو الفكري حيارى في الطريقة التي ينبغي لهم أن يسلكوها في حربهم الفكرية.

كان من جليل حكمة الله تعالى أن يقوم مشركو قريش بسلسلة من المفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن صوروا في أنفسهم كل هذه الاحتمالات، وهم أدرى الناس بطبيعة دعوته والغاية البعيدة من رسالته وبأنه لن ينزل عند شيء من مغرياتهم. ولكن هكذا شاءت الإرادة الإلهية حتى ينطق التاريخ بتكذيب كل من سيأتي من محترفي التشكيك والغزو الفكري مع الزمن.

لقد فكر أمثال كريمر وفان فلوتن طويلا.. ثم لم يجدوا من سبيل لأداء مهمة التشكيك والغزو إلا أن يغمضوا أعينهم عن الحقيقة ويزعموا أن دوافع محمد عليه الصلاة والسلام في دعوته إنما كانت الرغبة في السيادة والملك، وإن صدموا رؤوسهم في هذا الزعم بصخور عاتية تقذفهم وتردهم إلى الوراء أشواطا.

ص: 82

لقد سخر الله من قبلهم عتبة بن ربيعة وأمثاله، لحمل هذه الدوافع والآمال ووضعها بين يدي محمد عليه الصلاة والسلام لينالها قريبة سائغة وليبصر قريشا كلها وقد دانت له وألقت من يدها ما رفعته من السلاح ووسائل التعذيب في وجهه ووجه أصحابه، فلماذا لم يلن الرسول لهم، ولم يتحول إلى هذه الغنيمة التي سيقت إليه مادام أنها الدافع له من وراء رسالته ودعوته؟

وهل ينصت طالب الملك والزعامة لمن سعى يعرضهما عليه، في مفاوضة طويلة وتخويف ورجاء وتهديد، ليقول لهم أخيرا:«ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا.. فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه عليّ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» ؟!.

ثم إن معيشته الحياتية كانت مطابقة لكلامه هذا، فهو لم يعرض عن الزعامة والملك بلسانه، ليصل إليهما خلسة بسعيه وعمله. بل كان صلى الله عليه وسلم بسيطا في مأكله ومشربه، لا يعلو عما عليه حالة الفقراء والمساكين. قالت عائشة فيما يرويه البخاري:«لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال عليّ» . ويقول أنس رضي الله عنه فيما يرويه البخاري أيضا: «لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات وما أكل خبزا مرققا حتى مات» .

وكان بسيطا للغاية في ملبسه وأثاث بيته، يؤثر في جنبه الحصير وما عرف أنه نام قط على شيء وثير. حتى إن نساءه جئن إليه يوما وفيهن السيدة عائشة رضي الله عنها يشتكين إليه الفاقة ويطالبنه بمزيد من النفقة لزينتهن ولباسهن حتى لا تكون إحداهن أقل شأنا من مثيلاتها من نساء الصحابة، فأطرق مغضبا ولم يجب ثم نزل قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب 33/ 28، 29] ، فتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن هاتين الآيتين، ثم خيرهن بين قبول العيش معه على الحالة التي هو فيها، أو الإصرار على مطالبهن من النفقة وزيادة الزينة والمال وحينئذ يفارقهن ويسرحهن سراحا جميلا، فاخترن العيش معه على ما هو عليه «10» .

فكيف يشك العقل- أيّ عقل- بعد هذا كله، في صدق نبوته، وكيف يصح أن يتوهم الفكر أو الخيال بأنه قد يكون مدفوعا برغبة الزعامة أو الطمع في الغنى؟ .. فهذه هي الدلالة.

الأولى التي تؤخذ من هذا المشهد الذي ذكرناه.

(10) رواه البخاري، وانظر تفسير ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين.

ص: 83

الدلالة الثانية: وهي تبين لنا معنى الحكمة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمسك ويتصف بها.

هل الحكمة أن تضع أنت السياسة التي تراها في سير الدعوة مهما كانت كيفيتها ومهما كان نوعها؟

وهل أعطاك الشارع صلاحية أن تسلك أي سبيل أو وسيلة تراها ما دام هدفك من وراء ذلك هو الحق؟

لا.. إن الشريعة الإسلامية تعبدتنا بالوسائل كما تعبّدتنا بالغايات. فليس لك أن تسلك إلى الغاية التي شرعها الله لك إلا الطريق المعينة التي جعلها الله وسيلة إليها. وللحكمة والسياسة الشرعية معان معتبرة، ولكن في حدود هذه الوسائل المشروعة فقط.

والدليل ما رويناه آنفا، فقد كان من المتصور في باب الحكمة والسياسة أن يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بالزعامة أو الملك على أن يجمع في نفسه اتخاذ الملك والزعامة وسيلة إلى تحقيق دعوة الإسلام فيما بعد، خصوصا وإن للسلطان والملك وازعا قويا في النفوس، وحسبك أن أرباب الدعوات والمذاهب ينتهزون فرصة الاستيلاء على الحكم كي يستعينوا بسلطانه على فرض دعوتهم ومذاهبهم على الناس.

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض سلوك هذه السياسة والوسيلة إلى دعوته، لأن ذلك ينافي مبادئ الدعوة نفسها.

لو جاز أن يكون مثل هذا الأسلوب نوعا من أنواع الحكمة والسياسة الرشيدة، لا نمحى الفرق بين الصادق الصريح في صدقه والكاذب الذي يخادع في كذبه، ولتلاقى الصادقون في دعوتهم مع الدجالين والمشعوذين، على طريق واحدة عريضة اسمها: الحكمة والسياسة.

إن فلسفة هذا الدين تقوم على عماد الشرف والصدق في كل من الوسيلة والغاية. فكما أن الغاية لا يقوّمها إلا الصدق والشرف وكلمة الحق، فكذلك الوسيلة لا ينبغي أن يخطّها إلا مبدأ الصدق والشرف وكلمة الحق.

ومن هنا يحتاج أرباب الدعوة الإسلامية في معظم حالاتهم وظروفهم إلى التضحية والجهاد، لأن السبيل التي يسلكونها لا تسمح لهم بالتعرج كثيرا ذات اليمين وذات الشمال.

ومن الخطأ أن تحسب مبدأ الحكمة في الدعوة إنما شرع من أجل تسهيل عمل الداعي أو من أجل تفادي المآسي والأتعاب، بل السرفي مشروعية الحكمة في الدعوة إنما هو سلوك أقرب الوسائل إلى عقول الناس وأفكارهم. ومعنى هذا أنه إذا اختلفت الأحوال وقامت عثرات الصدّ والعناد دون سبيل الدعوة، فإن الحكمة حينئذ إنما هي إعداد العدة للجهاد والتضحية بالنفس والمال، إن الحكمة إنما هي أن تضع الشيء في مكانه.

وهذا هو الفرق بين الحكمة والمخادعة، وبين الحكمة والمسالمة.

ص: 84

وأنت خبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استبشر بما رآه مرة من دلائل إقبال بعض زعماء قريش على فهم الدين، انصرف إليهم بكليته مبتهجا يكلمهم ويشرح لهم ما يستفسرون عنه من حقائق الإسلام، حتى دعاه ذلك الاستبشار والطمع في هدايتهم إلى أن يعرض عن الصحابي الضرير عبد الله بن أم مكتوم حينما مرّ بهم فوقف إلى جانبهم يستمع، وأخذ هو الآخر يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام حرصا على الفرصة أن لا تفوته وأملا في أن يجيب عبد الله بن أم مكتوم في أي وقت آخر.

فعاتبه الله على ذلك في سورة: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عبس 80/ 1، 2] ، وأنكر عليه اجتهاده هذا، وإن كانت غايته مشروعة ونبيلة، ذلك لأن الوسيلة قد انطوت على كسر خاطر مسلم أو ما يدل على الإعراض عنه وعدم الالتفات إليه من أجل اجتذاب قلوب المشركين.

فهي ليست بمشروعة ولا مقبولة.

والخلاصة، أنه ليس لأحد من الناس أن يغير شيئا من أحكام الإسلام ومبادئه، أو يتجاوز شيئا من حدوده أو يستهين بها، باسم اتباع الحكمة في النصيحة والدعوة، لأن الحكمة لا تعتبر حكمة إلا إذا كانت مقيدة ومنضبطة ضمن حدود الشريعة ومبادئها وأخلاقها.

الدلالة الثالثة: ونستفيدها من موقف الرسول عليه الصلاة والسلام من تلك المطالب التي طلبتها قريش منه صلى الله عليه وسلم شرطا لاتباعها له. وهو موقف أيده الله فيه، ففيه- كما ذكر عامة المفسرين- نزل قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا

[الإسراء 17/ 90- 93] .

وليس السبب في عدم استجابة الله لهم ذلك، ما قد يظنه البعض من أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أوتي من المعجزات إلا معجزة القرآن، ولذلك لم تستجب لهم مطالبهم، وإنما السبب أن الله عز وجل علم أنهم إنما يطالبون بذلك كفرا وعنادا وإمعانا في الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما هو واضح في أسلوب طلبهم ونوع المطالب التي عرضوها. ولو علم الله عز وجل فيهم صدق الطلب وحسن النية وأنهم مقبلون في ذلك على محاولة التأكد من صدق النبي عليه الصلاة والسلام، لحقق لهم ذلك. ولكن أمر قريش في ذلك مطابق لما وصفه الله تعالى في آية أخرى وهي قوله: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر 15/ 14، 15] ، وإذا علمت ذلك، أدركت أنه لا تنافي بين هذا وما ثبت من إكرام الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بالمعجزات الكثيرة المختلفة مما سنفصل القول فيه قريبا إن شاء الله.

ص: 85