الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيذاء
ثم إن قريشا اشتدت في معاداتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد لاقى من إيذائهم أنواعا كثيرة. من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال:«بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر إسماعيل إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» «6» . ومنه ما روى عبد الله بن عمر قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة رضي الله عنها فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك» 7، ومنه ما كانوا يواجهونه به من فنون الهزء والغمز واللمز كلما مشى بينهم أو مرّ بهم في طرقاتهم أو نواديهم.
ومنه ما رواه الطبري وابن إسحاق أن بعضهم عمد إلى قبضة من التراب فنثرها على رأسه وهو يسير في بعض سكك مكة، وعاد إلى بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله يقول لها:«يا بنية لا تبكي، فإن الله مانع أباك» «8» .
وأما أصحابه رضوان الله عليهم، فقد تجرع كل منهم ألوانا من العذاب، حتى مات منهم من مات تحت العذاب وعمي من عمي، ولم يثنهم ذلك عن دين الله شيئا. ويطول البحث لو ذهبنا نسرد نماذج عن العذاب الذي لاقاه كل منهم. ولكنا ننقل هنا ما رواه الإمام البخاري عن خبّاب بن الأرتّ أنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت يا رسول الله: ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر الوجه، فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه.
وليتّمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله» «9» .
العبر والعظات:
أول ما قد يخطر في بال المتأمل، حينما يرى قصة ما لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين، من صنوف الإيذاء والتعذيب، هو أن يتساءل: فيم هذا العذاب الذي لقيه النبي وأصحابه وهم على الحق؟ ولماذا لم يعصمهم الله عز وجل منه وهم جنوده وفيهم رسوله يدعون إلى دينه ويجاهدون في سبيله؟
(6، 7) رواه البخاري.
(8)
انظر تاريخ الطبري: 2/ 344 وسيرة ابن هشام: 1/ 158
(9)
انظر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين في سيرة ابن هشام أو تهذيب السيرة وكتاب نور اليقين للخضري وغيرها من كتب السيرة.
والجواب: أن أول صفة للإنسان في الدنيا، أنه مكلف، أي أنه مطالب من قبل الله عز وجل بحمل ما فيه كلفة ومشقة. وأمر الدعوة إلى الإسلام والجهاد لإعلاء كلمته من أهم متعلقات التكليف، والتكليف من أهم مستلزمات العبودية لله تعالى، إذ لا معنى للعبودية لله تعالى إن لم يكن ثمة تكليف. وعبودية الإنسان لله عز وجل ضرورة من ضرورات ألوهيته سبحانه وتعالى.
فلا معنى للإيمان بها إن لم ندرك عبوديتنا له.
فقد استلزمت العبودية- إذن- التكليف، واستلزم التكليف تحمل المشاق ومجاهدة النفس والأهواء.
ومن أجل هذا كان واجب عباد الله في هذه الدنيا تحقيق أمرين اثنين:
أولهما: التمسك بالإسلام وإقامة المجتمع الإسلامي الصحيح.
ثانيهما: سلوك السبل الشاقة إليه واقتحام المخاطر وبذل المهج والمال من أجل تحقيق ذلك.
أي إن الله عز وجل كلفنا بالإيمان بالغاية، وكلفنا إلى جانب ذلك بسلوك الوسيلة الشاقة الطويلة إلى هذه الغاية مهما بلغت المسألة في خطورتها وصعوبتها.
ولو شاء الله لجعل السبيل إلى إقامة المجتمع الإسلامي بعد الإيمان به، سهلا معبّدا، ولكن السير في هذه السبيل لا يدل حينئذ على شيء من عبودية السالك لله عز وجل وعلى أنه قد باع حياته وماله له عز وجل يوم أن أعلن الإيمان به، وعلى أن جميع أهوائه تابعة ومنقادة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأمكن حينئذ أن يلتقي على هذه الجادة المؤمن والمنافق والصادق والكاذب، فلا يتمحص الواحد منهم عن الآخر.
وإذن فإن ما يلاقيه الدعاة إلى الله تعالى والمجاهدون في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي، سنة إلهية في الكون منذ فجر التاريخ تقتضيها حكم ثلاث:
أولا: صفة العبودية الملازمة للإنسان، لله عز وجل، وصدق الله إذ يقول: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] .
ثانيا: صفة التكليف المتفرعة عن صفة العبودية، فما من رجل أو امرأة يبلغ أحدهما، عاقلا، سن الرشد، إلا وهو مكلف من قبل الله عز وجل بتحقيق شرعة الإسلام في نفسه وتحقيق النظام الإسلامي في مجتمعه، على أن يتحمل في سبيل ذلك كثيرا من الشدة والأذى، حتى يتحقق معنى التكليف.
ثالثا: إظهار صدق الصادقين وكذب الكاذبين. فلو ترك الناس لدعوى الإسلام ومحبة الله تعالى على ألسنتهم فقط، لاستوى الصادق والكاذب. ولكن الفتنة والابتلاء، هما الميزان الذي يميز الصادق عن الكاذب. وصدق الله القائل في محكم كتابه:
الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت 29/ 1، 3] والقائل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران 3/ 142] .
وإذا كانت هذه هي سنة الله في عباده، فلن تجد لسنة الله تبديلا حتى مع أنبيائه وأصفيائه.
من أجل ذلك أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوذي من قبله جميع الأنبياء والرسل، ومن أجل ذلك أوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات منهم من مات تحت العذاب، وعمي من عمي، رغم عظيم فضلهم وجليل قدرهم عند الله عز وجل.
فإذا أدركت طبيعة العذاب الذي يلقاه المسلم في طريقه إلى إقامة المجتمع الإسلامي، علمت أنه ليس في حقيقته عقبات أو سدودا تصد السالك أو المجاهد عن بلوغ الغاية، كما قد يتوهم بعض الناس. بل هو سلوك في الطريق الطبيعي الذي خطه الله تعالى بين المسلم والغاية التي أمره بالسير إليها. أي أن المسلمين يقربون من الغاية التي كلفهم الله بالوصول إليها، بمقدار ما يجدونه في طريقهم إلى ذلك من العذاب، وبمقدار ما يتساقط منهم من الشهداء.
ولذا، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يتوهم اليأس، إذا ما عانى شيئا من المشقة أو المحنة. بل العكس هو الأمر المنسجم مع طبيعة هذا الدين. أي إن على المسلمين أن يستبشروا بالنصر كلما رأوا أنهم يتحملون مزيدا من الضر والنكبات سعيا إلى تحقيق أمر ربهم عز وجل.
وتأمل فإنك ستجد برهان هذا جليا في قوله تعالى:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة 2/ 214] . فقد كان جواب أولئك الذين لم يفهموا طبيعة العمل الإسلامي، وتوهموا أن هذا الذي يرونه من الأذى والعذاب إنما هو عنوان ودليل على ابتعادهم عن النصر، كان جواب هؤلاء من الله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
وتجد برهان هذا جليا فيما رويناه من قصة خباب بن الأرتّ رضي الله عنه، حينما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غالبه العذاب الذي اكتوى به معظم جسده، يشكو إليه صلى الله عليه وسلم ذلك ويسأله الدعاء للمسلمين بالنصر. فقد كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم له بهذا المعنى:
«إن كنت تتعجب من العذاب والأذى وتستغرب أن ترى ذلك في سبيل الله عز وجل، فاعلم أن هذا هو السبيل.. وتلك هي سنة الله في جميع عباده الذين آمنوا به: مشّط الكثير منهم في سبيل دينه بأمشاط الحديد ما بين المفرق والقدم فما صدهم ذلك عن شيء من دين الله، وإن كنت ترى في العذاب دلائل اليأس والقنوط من النصر، فأنت متوهم. بل الحق هو أن تجد في