المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أن على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب الإمام يقوم - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: أن على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب الإمام يقوم

أن على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر» . كما دلت هذه التوصية على مشروعية اجتهاد المسلمين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: لقد رأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى لأصحابه زيدا وجعفر وابن رواحة وعيناه تذرفان وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم مسافات شاسعة بعيدة! ..

وهذا يدل على أن الله تعالى قد زوى لرسوله الأرض، فأصبح يرى من شأن المسلمين الذين يقاتلون على مشارف الشام، ما حدث أصحابه به، وهي من جملة الخوارق الكثيرة التي أكرم الله بها حبيبه صلى الله عليه وسلم.

كما يدل هذا الحديث نفسه على مدى شفقته على أصحابه، فلم يكن شيئا قليلا أن يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف في أصحابه يحدثهم عن خبر هؤلاء الشهداء. وأنت خبير أن بكاءه صلى الله عليه وسلم عليهم، لا يتنافى مع الرضى بقضاء الله تعالى وقدره فإن العين لتدمع والقلب ليحزن- كما قال عليه الصلاة والسلام وتلك رقة طبيعية ورحمة فطر الله الإنسان عليهما.

رابعا: وحديث نعيه صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الشهداء الثلاثة، يسجل فضلا خاصا لخالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد قال لهم في آخر حديثه:«حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح عليهم» . وتلك أول وقعة يحضرها خالد رضي الله عنه في صف المسلمين، إذ لم يكن قد مضى على إسلامه إلا مدة يسيرة. ومن هنا تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو الذي سجل لقب سيف الله، لخالد رضي الله عنه.

ولقد أبلى رضي الله عنه، في هذه الغزوة بلاء رائعا، روى البخاري عنه رضي الله عنه قال:

«لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية» . قال ابن حجر: وهذا الحديث يدل على أن المسلمين قد قتلوا من المشركين كثيرا.

هذا، وأما سبب قول الناس للمسلمين بعد رجوعهم إلى المدينة:«يا فرّار، فررتم في سبيل الله» ، فهو أنهم لم يتبعوا الروم ومن معهم في هزيمتهم، وتركوا الأرض التي قاتلوا فيها كما هي ولم يكن ذلك شأنهم في الغزوات الأخرى، واكتفى خالد بذلك فكرّ عائدا إلى المدينة. ولكنه كما رأيت كان تدبيرا حكيما من خالد بن الوليد رضي الله عنه حفظا للمسلمين وهيبتهم التي انطبعت في أفئدة الروم، ولذلك ردّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم قائلا:«ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار، إن شاء الله» .

‌فتح مكة

وكان ذلك في شهر رمضان سنة ثمان من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

وسببها أن أناسا من بني بكر، كلموا أشراف قريش في أن يعينوهم على خزاعة بالرجال والسلاح. (وخزاعة كانت قد دخلت في عهد المسلمين) ، فأجابوهم إلى ذلك، وخرج حشد من

ص: 262

قريش متنكرين متنقبين، فيهم صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص، فالتقوا مع بني بكر في مكان اسمه الوتير، وبيتوا خزاعة ليلا وهم مطمئنون آمنون، فقتلوا منهم عشرين رجلا. وعندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بما أصابهم، فقام وهو يجر رداءه قائلا:

«لا نصرت إن لم أنصر بني كعب، مما أنصر منه نفسي» وقال: «إن هذا السحاب ليستهلّ بنصر بني كعب» «44» .

وندمت قريش على ما بدر منها، فأرسلت أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الهدنة ويماددها. وقدم أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يردّ عليه شيئا، فذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما أنا بفاعل» .

ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: «أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به (والذر صغار النمل) » .

وانطلق أبو سفيان عائدا إلى مكة خائبا، لم يأت بشيء!.

وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخفى أمره، وقال:«اللهم خذ على أبصار فريش فلا يروني إلا بغتة» «45» .

ولما أجمع النبي صلى الله عليه وسلم المسير، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يحذرهم من غارة عليهم من المسلمين. قال علي رضي الله عنه: «فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد. فقال:

انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب فخذوه منها. قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة. قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت:

ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرءا ملصقا في قريش- أي كنت حليفا لهم ولست منهم- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال:

(44) روى ذلك ابن سعد وابن إسحاق. وهذا النص من رواية ابن سعد. قال ابن حجر: ورواه البزار والطبراني وموسى بن عقبة، وغيرهم..

(45)

رواه ابن إسحاق وابن سعد بألفاظ متقاربة.

ص: 263

إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم.

فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ

الآيات إلى قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «46» .

واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة كلثوم بن حسين، وخرج يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر، وأرسل صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب: أسلم وغفار ومزينة، وجهينة وغيرهم، فالتقى كلهم في الظهران- مكان بين مكة والمدينة- وقد بلغ عدد المسلمين عشرة آلاف.

ولم تكن الأنباء قد وصلت قريشا بعد، ولكنهم كانوا يتوقعون أمرا بسبب فشل أبي سفيان فيما جاء به إلى المدينة، فأرسلوا أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء ليلتمسوا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون، حتى دنوا إلى مر الظهران فإذا هم بنيران عظيمة، فبينما هم يتساءلون فيما بينهم عن هذه النيران، إذ رآهم أناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان» «47» .

قال ابن إسحاق يروي عن العباس تفصيل إيمان أبي سفيان: «فلما أصبح، غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! .. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد. وقال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله، فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس: ويحك! .. أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.

قال العباس: فقلت يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال:

نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير مقبلا إلى مكة، قال للعباس: احبس أبا سفيان بمضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال: فخرجت فحبسته عند مضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه، ومرت القبائل عليها راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس من

(46) متفق عليه واللفظ للبخاري.

(47)

إلى هنا من رواية البخاري، وليس فيها كما ترى إشارة إلى إسلام صاحبيه أيضا. والذي ذكره علماء السيرة، وفي مقدمتهم موسى بن عقبة، أن بديلا وحكيما أسلما بمجرد دخولهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح. فلذلك عنيت رواية البخاري بذكر أبي سفيان وأهملت ذكر صاحبيه.

ص: 264

هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ .. وهكذا، حتى مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار! .. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! .. فقال: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذن» «48» .

ثم قال له العباس: «النجاة إلى قومك! .. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة قبل أن يصلها رسول الله، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

فأقبلت إليه امرأته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه وهي تقول: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبّح من طليعة قوم! .. فقال: ويلكم لا تغرنكم هذه من نفوسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟

قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد» «49» .

وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سعد بن عبادة قال لأبي سفيان عندما رآه في مضيق الوادي:

«اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فلم يرض عليه الصلاة والسلام بقوله هذا، وقال:

بل اليوم يوم الرحمة، اليوم يعظم الله الكعبة. وأمر قادة جيوشه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم» «50» إلا ستة رجال وأربعة نسوة، أمر بقتلهم حيثما وجدوا، وهم: عكرمة بن أبي جهل، وهبّار بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نقيد، وعبد الله بن هلال، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وفرتنى وقرينة (وكانتا جاريتين تتغنيان دائما بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم «51» .

ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها (كداء) وأمر خالد بن الوليد أن يدخل بمن معه من أسفلها: (كدى) . فدخل المسلمون مكة من حيث أمرهم، ولم يجد أحد منهم مقاومة، إلا خالد بن الوليد، فقد لقيه جمع من المشركين فيهم عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية،

(48) رواه ابن سعد، وابن إسحاق، وابن جرير، وروى نحوه البخاري، والألفاظ متقاربة.

(49)

ابن إسحاق.

(50)

رواه البخاري وابن إسحاق وغيرهما.

(51)

رواه ابن سعد وابن إسحاق، قال ابن حجر: وقد جمعت أسماء هؤلاء الرجال الستة والنسوة الأربع من متفرقات الأخبار.

ص: 265

فقاتلهم خالد فقتل منهم أربعة وعشرين من قريش، وأربعة نفر من هذيل. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بارقة السيوف من بعيد، فأنكر ذلك، فقيل له: إنه خالد قوتل فقاتل، فقال:

«قضاء الله خير» «52» .

روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر والحاكم عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا (متعمما) بشقة برد حبرة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.

وروى البخاري عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يرجّع، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجع.

ودخل صلى الله عليه وسلم مكة متجها إلى البيت، وحوله ثلاث مئة وستون صنما، فجعل يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده، وهو يقول:«جاء الحق وزهق الباطل. جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» «53» . وكان في جوف البيت أيضا آلهة، فأبى أن يدخل وفيه الآلهة، وأمر بها فأخرجت وأخرجت صور لإبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط. ثم دخل البيت فكبّر في نواحي البيت وخرج ولم يصل فيه» «54» .

وكان قد أمر صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة (وهو من حجبة البيت) أن يأتيه بالمفتاح، فجاءه به، ففتح البيت، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح، وقال له: خذوها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم (أي حجابة البيت) ولكن الله دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم. يشير بقوله هذا إلى قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «55» [النساء 4/ 58] .

وأمر رسول الله بلالا فصعد فوق ظهر الكعبة فأذن للصلاة. وأقبل الناس كلهم يدخلون في دين الله أفواجا. قال ابن إسحاق: وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بعضادتي باب الكعبة وقد اجتمع الناس من حوله ما يعلمون ماذا يفعل بهم، فخطب فيهم قائلا:

«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا

(52) رواه ابن سعد في الطبقات، وروى ابن حجر عن موسى بن عقبة نحوه، وفي سيرة ابن هشام أن الذين قتلوا من المشركين ثلاثة عشر أو أربعة عشر. والحديث رواه البخاري باختصار، راجع فتح الباري: 8/ 8 و 9.

(53)

متفق عليه.

(54)

رواه البخاري. وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت فصلى فيه، وسنذكر تحقيق ذلك في التعليق إن شاء الله.

(55)

رواه الطبراني من مرسل الزهري، وابن أبي شيبة، وابن إسحاق. وانظر فتح الباري: 8/ 14

ص: 266

كل مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب، وتلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» «56» .

وروى الشيخان عن أبي شريح العدوي أنه صلى الله عليه وسلم قال فيما خاطب به الناس يوم الفتح: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها أناس، لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له فيه ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» .

ثم إن الناس اجتمعوا بمكة لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ورسوله، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش، فيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لما كان من صنيعها بحمزة رضي الله عنها، فلما دنون منه ليبايعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا، فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال، وسنؤتيكه، قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلّا لي أم لا؟ فقال أبو سفيان، وكان شاهدا لما تقول: أمّا ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل. فقال عليه الصلاة والسلام: وإنك لهند بنت عتبة؟ فقالت: أنا هند بنت عتبة، فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين، قالت:

وهل تزني الحرة!. قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا، فأنت وهم أعلم. فضحك عمر من قولها حتى استغرب. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.

قال: ولا تعصينني في معروف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن واستغفر لهن رسول الله، فبايعهن عمر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء ولا يمس امرأة ولا تمسه، إلا امرأة أحلّها الله له» «57» .

وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام، بهذه الآية: لا يشركن بالله شيئا، قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة

(56) وروى نحوه ابن سعد أيضا في طبقاته.

(57)

رواه ابن إسحاق وابن جرير.

ص: 267