الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد طال ما قد كنت مطمئنة
…
هل أنت إلا نطفة في شنّة
ولم يزل يقاتل حتى قتل رضي الله عنه. ثم اتفق الناس على إمرة خالد بن الوليد فأخذ اللواء، وقاتل المشركين حتى انهزموا، فانحاز بجيشه حينئذ عائدا إلى المدينة» .
روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفر وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال:«أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم» .
وهذا الحديث يدل كما ترى، على أن الله أيد المسلمين بالنصر أخيرا، وليس كما قال بعض رواة السيرة أن المسلمين انهزموا وتفرقوا، وعادوا بعد ذلك إلى المدينة. ولعل مقصود الذين قالوا هذا، أن المسلمين لم يتبعوا الروم ومن معهم في هزيمتهم، واكتفوا بانكشافهم عن مواقعهم، خوفا على المسلمين، وانقلبوا عائدين إلى المدينة، ولا شك أنه تدبير حكيم من خالد بن الوليد رضي الله عنه.
قال ابن حجر: وقع في المغازي لموسى بن عقبة- وهي أصح المغازي- قوله: «ثم أخذه (يعني اللواء) عبد الله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون على خالد بن الوليد، فهزم الله العدو وأظهر المسلمين» . قال العماد بن كثير: «ويمكن الجمع بأن خالدا حاز المسلمين وبات، ثم أصبح وقد غير هيأة العسكر فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، ليتوهم العدو أن مددا قد جاء المسلمين. فحمل عليهم خالد فولّوا فلم يتبعهم ورأى الرجوع بالمسلمين هي الغنيمة الكبرى «41» .
ولما دنوا من المدينة، تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقيهم الصبيان يسرعون، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر!. فأتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه.. وجعل الناس يصيحون بالجيش: يا فرار، فررتم في سبيل الله.. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» .
العبر والعظات:
أهم ما يثير الدهشة، في هذه الغزوة، تلك النسبة الكبيرة من الفرق بين عدد المسلمين فيها وعدد مقاتليهم من الروم والمشركين العرب! .. لقد رأيت أن عدد المشركين ومن معهم من الروم قد بلغ ما يقرب مئتي ألف مقاتل! .. وذلك على ما رواه ابن إسحاق وابن سعد وعامة كتاب السيرة «42» على حين أن عدد المسلمين لم يتجاوز ثلاثة آلاف. ومعنى ذلك أن عدد المشركين والروم
(41) انظر فتح الباري: 7/ 361 و 362
(42)
انظر طبقات ابن سعد: 3/ 175 وسيرة ابن هشام: 2/ 375
قد بلغوا ما لا يقل عن خمسين ضعفا لعدد المسلمين! ..
وهي نسبة إذا ما تصورتها، تجعل رقعة الجيش الإسلامي، أمام حشود الروم والمشركين، أشبه ما تكون بساقية ماء صغيرة بالنسبة إلى بحر خضم مائج، هذا إلى ما كان قد جهز به جيش الأعداء من العدة والذخيرة والسلاح ومظاهر الأبهة والبذخ، على حين أن المسلمين كانوا يعانون من ذلك القلة والفقر! ..
ومكان الدهشة في الأمر، أن تجد المسلمين بعد هذا كله- وهم سرية ليس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلين غير مدبرين، لا يقيمون لكل هذه الحشود الهائلة أمامهم وزنا، مع أنها- فيما يبدو ويظهر- لو التفّت من حولهم وطوقتهم من جهاتهم، لانقلبوا إلى ما يشبه نواة صغيرة في جوف قطعة أرض سوداء! ..
ثم إن مكان الدهشة بعد ذلك، أن يصمد المسلمون لقتال هذا اليمّ المتلاطم. يقتل أميرهم الأول، ثم الثاني، فالثالث، وهم يقتحمون أبواب الشهادة في نشوة بالغة وإقبال عجيب، حتى يدخل الرعب الإلهي في أفئدة كثير من المشركين، دون أن يكون له سبب ظاهر، فينكشفون عن مواقعهم ويدبر منهم الكثير، وتقتل منهم خلائق لا تكاد تحصى! ..
ولكن الدهشة كلها تزول، والعجب ينتهي، إذا تذكرنا ما يفعله الإيمان بالله، والاعتماد عليه، واليقين بوعده.
بل إن المدهش بالنسبة للمسلمين- إذا كانوا مسلمين- أن لا يكونوا كذلك والعجيب فيهم حقا، أن يكونوا مسلمين ثم يكون لأرقام العدد والعدّة حساب مع ذلك في أفكارهم، إلى جانب ما وعد الله به من نصر وتأييد، أو جنة ونعيم خالدين! .. فالمسلمون- كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لا يقاتلون بعدد ولا قوة، ولا كثرة، وإنما يقاتلون بهذا الدين الذي أكرمهم الله به.
ثم إن هذه الغزوة، تنطوي، على عظات ودلالات باهرة كثيرة، نذكر منها ما يلي:
أولا: دلت توصية النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه يجوز للخليفة أو رئيس المسلمين أن يعلق إمارة أحد الناس بشرط وأن يولّي المسلمين عدة أمراء بالترتيب، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تولية زيد ثم جعفر ثم عبد الله بن رواحة، قال العلماء:«والصحيح أنه إذا أمر الخليفة بذلك فإن ولاية الكل تنعقد، بوقت واحد، في الحال، ولكنها لا تنفذ إلا مرتبة» «43» .
ثانيا: دلت توصية الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا، على مشروعية اجتهاد المسلمين في اختيار أميرهم، إذا غاب أميرهم، أو وكل إليهم الخليفة اختيار من يرون. وقال الطحاوي: «هذا أصل يؤخذ منه
(43) انظر فتح الباري: 7/ 361