المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح: - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

[محمد سعيد البوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الجديدة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌القسم الأوّل مقدّمات

- ‌أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام

- ‌السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

- ‌كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

- ‌المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

- ‌مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

- ‌سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة

- ‌الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

- ‌القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة

- ‌نسبه صلى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته

- ‌العبر والعظات:

- ‌رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

- ‌العبر والعظات:

- ‌تجارته بمال خديجة وزواجه منها

- ‌العبر والعظات:

- ‌اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

- ‌العبر والعظات:

- ‌اختلاؤه في غار حراء

- ‌العبر والعظات:

- ‌بدء الوحي

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الدّعوة سرّا

- ‌العبر والعظات:

- ‌1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

- ‌الجهر بالدعوة

- ‌العبر والعظات:

- ‌الإيذاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌سياسة المفاوضات

- ‌العبر والعظات:

- ‌الحصار الاقتصادي

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول هجرة في الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌العبر والعظات:

- ‌عام الحزن

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول إلى الطائف

- ‌العبر والعظات:

- ‌معجزة الإسراء والمعراج

- ‌العبر والدلالات:

- ‌عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بيعة العقبة الثانية

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

- ‌إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

- ‌العبر والعظات:

- ‌هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌قدوم قباء

- ‌صورة عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

- ‌الأساس الأول (بناء المسجد)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية:

- ‌2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

- ‌3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

- ‌4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:

- ‌الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

- ‌العبر والدلائل:

- ‌القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

- ‌مقدمة

- ‌بدء القتال

- ‌أول غزوة غزاها رسول الله

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌العبر والعظات:

- ‌بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة أحد

- ‌العبر والعظات:

- ‌يوم الرجيع، وبئر معونة

- ‌أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) :

- ‌ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) :

- ‌العبر والعظات:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

- ‌غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

- ‌خبر الإفك

- ‌العبر والدلالات:

- ‌غزوة الخندق

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌العبر والعظات:

- ‌القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة

- ‌صلح الحديبية

- ‌بيعة الرضوان

- ‌العبر والعظات:

- ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

- ‌الأحكام المتعلقة بذلك:

- ‌ غزوة خيبر

- ‌قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

- ‌العبر والعظات:

- ‌سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

- ‌العبر والعظات:

- ‌حكمة مشروعية هذه المرحلة:

- ‌عمرة القضاء

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة مؤتة

- ‌العبر والعظات:

- ‌فتح مكة

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

- ‌ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله:

- ‌ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

- ‌رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

- ‌خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

- ‌سادسا- تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

- ‌سابعا- تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

- ‌ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

- ‌تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا

- ‌غزوة حنين

- ‌أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

- ‌العبر والعظات:

- ‌غزوة تبوك

- ‌أمر المخلفين

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة:

- ‌ثانيا- العبر والأحكام:

- ‌حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

- ‌العبر والعظات:

- ‌مسجد الضرار

- ‌العبر والعظات:

- ‌وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

- ‌تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

- ‌العبر والعظات:

- ‌خبر إسلام عدي بن حاتم

- ‌العبر والعظات:

- ‌بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

- ‌العبر والعظات:

- ‌حجة الوداع وخطبتها

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- عدد حجات الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج:

- ‌ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:

- ‌شكوى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى

- ‌بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

- ‌العبر والعظات:

- ‌أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

- ‌ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها:

- ‌السحر والرّقية منه:

- ‌ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

- ‌خامسا- شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

- ‌خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

- ‌خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

- ‌خلافة أبي بكر الصديق

- ‌أهم ما قام به في مدة خلافته:

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌عهده بالخلافة إلى عمر:

- ‌على أيّ أساس أصبح عمر خليفة

- ‌كتاب العهد إلى عمر:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌طاعون عمواس:

- ‌مقتل عمر رضي الله عنه:

- ‌استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى:

- ‌كيف تمّ اختيار عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌عثمان بن عفان

- ‌سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك

- ‌أول الفتنة، ومقتل عثمان:

- ‌مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان:

- ‌العبر والعظات:

- ‌خلافة عليّ رضي الله عنه

- ‌الثأر لعثمان ووقعة الجمل:

- ‌أمر معاوية ووقعة صفّين:

- ‌أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

- ‌العبر والعظات:

الفصل: ‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

يصبر عمر حتى أتى أبا بكر رضي الله عنه فسأله مثل ما سأل النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال له يا ابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يعصي ربّه ولن يضيّعه الله أبدا. فما هو إلا أن نزلت سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياها. فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟! .. قال: نعم، فطابت نفسه» «6» .

ثم إن النّبي صلى الله عليه وسلم أقبل على أصحابه فقال لهم: «قوموا فانحروا ثم احلقوا- وكرر ذلك ثلاثا- فوجم جميعهم وما قام منهم أحد، فدخل على زوجته أم سلمة، وذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل الآخر لفرط الغم.

ثم جاء نسوة مؤمنات (بعد انصرافه إلى المدينة) مهاجرات بدينهن، بينهن أم كلثوم بنت عقبة، فأنزل الله تعالى قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة 60/ 12] . فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردهنّ بدينهن إلى الكفار» «7» .

‌بيعة الرضوان

وكان قد أرسل النّبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى قريش قبل كتابة الصلح ليكلمهم في الأمر، فاحتبسته قريش عندها مدة، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك أن عثمان بن عفان قد قتل، فقال لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت شجرة هنا لك.

فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بيد أصحابه الواحد منهم تلو الآخر يبايعونه على أن لا يفرّوا. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه، وقال:«هذه عن عثمان» .

ولما تّمت البيعة، انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي بلغه من مقتل عثمان باطل.

‌العبر والعظات:

‌كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح:

قبل أن نخوض في تفصيل ما ينبغي أن نقف عليه من دروس صلح الحديبية وعظاتها وأحكامها، نقول في كلمة وجيزة: إن أمر هذا الصلح كان مظهرا لتدبير إلهي محض تجلى فيه عمل النبوة وأثرها كما لم يتجلّ في أي عمل أو تدبير آخر. فقد كان نجاحه سرّا مرتبطا بمكنون الغيب

(6) متفق عليه.

(7)

صحيح البخاري.

ص: 233

المطوي في علم الله وحده، ولذلك انتزع- كما قد رأيت- دهشة المسلمين أكثر مما اعتمد على فكرهم وتدبيرهم. ومن هنا، فإنّا نعتبر أمر هذا الصلح، بمقدماته ومضمونه ونتائجه، من الأسس الهامة في تقويم العقيدة الإسلامية وتثبيتها.

ولنتحدث أولا عن طرف من الحكم الإلهية العظيمة التي تضمنها هذا الصلح، والتي تجلت للعيان فيما بعد، حتى أضحت آية من آيات الله الباهرة، ثم نتحدث بعد ذلك عن الأحكام الشرعية التي تضمنتها وقائع هذا الصلح.

فمن الحكم الباهرة، أن صلح الحديبية كان مقدمة بين يدي فتح مكة. فقد كانت هذه الهدنة- كما يقول ابن القيّم- بابا له ومفتاحا. وتلك هي عادة الله سبحانه وتعالى، يوطّئ بين يدي الأمور التي تعلقت إرادته بإنجازها، مقدمات تؤذن بها وتدل عليها.

ولئن، لم يكن المسلمون قد تنبهوا لهذا في حينه، فذلك لأن المستقبل غائب عنهم، فأنّى لهم أن يفهموا علاقة الواقع الذي رأوه بالغيب الذي لم يتصوروه بعد؟

ولكن ما إن مضت فترة من الزمن، حتى أخذ المسلمون يستشفّون أهمية هذه الهدنة وعظيم ما قد انطوت عليه من خير. فإن الناس أمن بعضهم بعضا، واختلط المسلمون بالكفار ونادوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان متخفيا بالإسلام.

روى ابن هشام عن ابن إسحاق عن الزهري قال: «ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه (أي من صلح الحديبية) إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» .

ولذلك أطلق القرآن اسم الفتح على هذا الصلح، وذلك في قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح 48/ 27] .

ومن الحكم الجليلة أيضا، أن الله جل جلاله أراد بذلك أن يبرز الفرق واضحا بين وحي النّبوة وتدبير الفكر البشري، بين توفيق النّبي المرسل وتصرّف العبقري المفكّر، بين الإلهام الإلهي الذي يأتي من فوق دنيا الأسباب ومظاهرها، والانسياق وراء إشارة هذه الأسباب وحكمها. أراد الله عز وجل أن ينصر نبوة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم أمام بصيرة كل متأمل عاقل، ولعل هذا من بعض تفسير قوله تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً، أي نصرا فريدا في بابه، من شأنه أن ينبّه الأفكار السادرة والعقول الغافلة.

ص: 234

فمن هنا أعطى المشركين كل ما سألوه من الشروط، وتساهل معهم في أمور لم يجد أحد من الصحابة ما يسوّغ التساهل فيها، ولقد رأيت كيف استبدّ الضيق والقلق بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى إنه قال عن نفسه فيما بعد- فيما رواه أحمد وغيره-: ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، ولقد رأيت كيف ساد الوجوم القوم حينما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحلق والنحر، ليعودوا إلى المدينة، رغم أنه كرر عليهم الأمر ثلاث مرات، لقد كان السّر في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم إنما كانوا يتأملون في تصرفات النّبي صلى الله عليه وسلم، وهم يقفون على أرض من البشرية العادية، فلا يتبصرونها إلا بمقدار ولا يفهمون منها إلا ما تفهمه عقولهم البشرية القائمة على الخبرات المحسوسة، على حين كان النّبي صلى الله عليه وسلم واقفا من تصرفاته هذه فوق مستوى البشرية وخبراتها وأسبابها، كانت النّبوة المطلقة هي التي توجهه وتلهمه وتوحي إليه، وكان تنفيذ الأمر الإلهي هو وحده الماثل أمام عينيه.

يتضح لك هذا من جوابه لعمر بن الخطاب حينما أقبل إليه سائلا ومتعجبا، بل وربما مستنكرا. فقد قال له: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. ويتضح لك هذا أيضا من وصية النّبي صلى الله عليه وسلم، لعثمان حينما أرسله إلى مكة ليكلم قريشا فيما جاء له النّبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمره أيضا أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان.

فلا غرو أن يدهش المسلمون لموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تمحض عن المفاهيم البشرية ومقاييسها في تلك الآونة. ولكن سرعان ما انتهت الدهشة وزال الغم واتضح المبهم، حينما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم سورة الفتح التي تنزلت عليه عقب الفراغ من أمر الصلح. وتجلى للصحابة رضي الله عنهم أن احتمالهم لتلك الشروط كان عين النصر لهم، وأن المشركين ذلّوا من حيث تأملوا العزّ، وقهروا من حيث أظهروا القدرة والغلبة. وظهر من وراء ذلك كله النصر العظيم لرسوله والمؤمنين دون أن يكون في ذلك أي اقتراح للعقول والأفكار.

فهل في أدلة العقيدة دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ من هذا الدليل وأظهر؟ ..

ولقد تضايق المسلمون بادئ الأمر من موافقة النّبي صلى الله عليه وسلم على الشرط الذي أملاه سهيل بن عمرو: «من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردّ عليه» . وازداد ضيقهم لما أقبل أبو جندل (ابن سهيل بن عمرو) فارّا من المشركين يرسف في الحديد، فقام إليه أبوه آخذا بتلابيبه وهو يقول: «يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال صدقت، فجعل ينتره ويجرّه ليردّه إلى قريش، وأبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل، اصبر

ص: 235

واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا أعطينا القوم عهودا، وإنا لا نغدر بهم» .

ولقد أخذ الصحابة ينظرون إلى هذا الأمر، وقد داخلهم من ذلك همّ عظيم.

ولكن، فما الذي تمّ بعد ذلك؟ .. «لقد جاء إلى النّبي صلى الله عليه وسلم بعد ذهابه إلى المدينة رجل آخر قد أسلم من قريش اسمه: أبو بصير، فأرسلوا في طلبه رجلين من المشركين ليستردّوه، فسلّمه الرسول صلى الله عليه وسلم إليهما، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فغافل أبو بصير أحد حارسيه وأخذ منه سيفه فقتله، ففرّ الآخر. ثم عاد أبو بصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمّتك، قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم، ثم إنه خرج حتى أتى سيف البحر، وتفلت أبو جندل، فلحق به هناك، وأصبح ذلك المكان مثابة للمسلمين من أهل مكة، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير وإخوانه، فما كانوا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوا المشركين وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن يقبلهم عنده ويضمهم إليه، فجاؤوا إلى المدينة» «8» .

ولما كان فتح مكة، كان أبو جندل هذا، هو الذي استأمن لأبيه وعاش رضي الله عنه حتى استشهد في وقعة اليمامة «9» .

وهكذا صحا أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم من همهم ذاك، على مزيد من الإيمان بالحكمة الإلهية ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، روي في الصحيح أن سهيل بن سعيد رضي الله عنه قال يوم صفين:«أيها الناس، اتهموا رأيكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته!» .

ومرة أخرى نكرر ونقول: هل في أدلة العقيدة دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ من هذا الدليل وأظهر؟

ومن الحكم الجليلة أيضا، أن الله جلّت قدرته إنما أراد أن يجعل فتح مكة لنبيّه فتح مرحمة وسلم، لا فتح ملحمة وقتال، فتحا يتسارع الناس فيه إلى دين الله أفواجا، ويقبل فيه أولئك الذين آذوه وأخرجوه، يلقون إليه السلم ويخضعون له الجانب مؤمنين آيبين موحدين. فجعل من دون ذلك هذا التمهيد، تؤوب فيه قريش إلى صحوها وتحاسب فيها نفسها وضميرها، وتشترك هي الأخرى مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ العبرة من أمر هذا الصلح ومقدماته ونتائجه، فتنضج الآراء في الرؤوس وتتهيأ لقبول الحق الذي لا ثاني له.

وهكذا كان الأمر، كما ستعلم تفصيله في مكانه إن شاء الله تعالى.

(8) من تتمة حديث البخاري السابق ذكره.

(9)

راجع الإصابة: 4/ 24

ص: 236