الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومرّ الجيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر (وهي منازل ثمود) فقال لأصحابه: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي «105» .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قفل راجعا إلى المدينة، فلما أشرفوا على المدينة قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه:«هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه «106» وقال لأصحابه: إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر» «107» .
وقدم المدينة عليه الصلاة والسلام في رمضان من السنة نفسها، فيكون قد غاب قرابة شهرين..
أمر المخلفين
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلّى فيه ركعتين، ثم جلس للناس فجاءه المخلفون وطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا. فقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب بن مالك وصاحبيه إلى أن نزلت آيات بقبول توبتهم.
وقد روى كعب رضي الله عنه خبره في ذلك- في حديث طويل رواه البخاري ومسلم- وجاء فيه قوله: «كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة.. وطفقت أغدو لكي أتجهز مع المسلمين، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه (أي لن يعوقني شيء عن سرعة التجهز) فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجدّ ولم أقض من جهازي شيئا. ولم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو (أي خرجوا وفاتوا) وهممت أن أرتحل فأدركهم- وليتني فعلت- فلم يقدّر لي ذلك. فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموسا بنفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء.. ولما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همّي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا سأخرج من سخطه غدا؟! .. واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، ولما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل، زاح عني الباطل وأجمعت أن أصدقه، فجئته، فلما سلمت عليه تبسّم تبسّم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت
(105) متفق عليه.
(106)
متفق عليه.
(107)
متفق عليه، البخاري: 5/ 136، ومسلم: ز/ 49
ظهرك؟ فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله. والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك!. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني يؤنبونني (أي يعتبون عليه أنه لم يعتذر كالآخرين) فقلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟
فقالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية. فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرا لي فيهما أسوة..
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أي الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكّرت لي الأرض فما هي بالتي أعرفها فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه أسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عني. وبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطيّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إليّ كتابا من ملك غسان، فإذا فيه:«أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله في دار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك» ، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.. فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا. فبينا أنا جالس على الحال الذي ذكر الله (قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت) سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. فخررت ساجدا، وعرفت أنه قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون.. ولما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة. ودخلت المسجد، فإذا